في مشهد غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط، أعلنت الأمم المتحدة رسميًا دخول قطاع غزة في مرحلة "المجاعة"، لتسجّل هذه البقعة الصغيرة المثقلة بالحروب والحصار سابقة خطيرة، وتفتح الباب أمام تداعيات إنسانية وسياسية قد تغيّر مسار المنطقة بأكملها. الإعلان الأممي لم يأتِ من فراغ؛ بل هو تتويج لأشهر من التحذيرات الصارخة حول انهيار الوضع الغذائي وتفاقم الأزمة الإنسانية، وسط استمرار القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات، وصمت دولي يزداد قتامة مع كل وفاة جديدة تُسجّل في سجلات المستشفيات المنهكة.
إعلان تاريخي يحمل أبعادًا سياسية
أكّد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي ومقره في روما أنّ محافظة غزة مدينة غزة التي تغطي نحو 20% من القطاع، تعيش بالفعل مجاعة، في خطوة تُعد الأولى من نوعها بالمنطقة. الإعلان لم يكن مجرد تقرير إحصائي، بل وثيقة إدانة عالمية تُحمّل إسرائيل المسؤولية المباشرة عن حرمان نصف مليون إنسان من حقهم الأساسي في الغذاء.
وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر المأساة بأنها "لحظة عار جماعي"، مؤكدًا أنّ المساعدات تتكدس على الحدود بسبب العرقلة الممنهجة من الجانب الإسرائيلي، في وقت يواجه فيه الأطفال والنساء والمسنون خطر الموت جوعًا.
لحظة "عار جماعي" واتهامات مباشرة
لم يتوقف فليتشر عند حدود التحذير، بل وجّه رسالة مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "دعونا ندخل الغذاء والإمدادات من دون عوائق… ضعوا حدًا للانتقام".
وأضاف أن ما يجري في غزة ليس أزمة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لقرارات سياسية جعلت من الجوع سلاحًا يُستخدم ضد المدنيين، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب وفق القانون الدولي.
أرقام مأساوية تكشف حجم الكارثة
الإحصاءات الواردة من وزارة الصحة في غزة ومنظمة الصحة العالمية ترسم صورة أكثر قتامة:
في غضون 22 شهرًا، سُجلت 89 حالة وفاة بسبب سوء التغذية والجوع، معظمهم أطفال.
في أغسطس وحده، خلال أول 20 يومًا فقط، تم تسجيل 133 حالة وفاة، بينهم 25 طفلًا لم يتجاوزوا 18 عامًا.
هذه الأرقام، بحسب خبراء التغذية، ليست سوى قمة جبل الجليد، إذ تشير تقارير ميدانية إلى آلاف الحالات من سوء التغذية الحاد التي لم تُسجّل بعد بسبب نقص الإمكانيات الطبية والفوضى في عملية الرصد.
مشاهد من الميدان.. غذاء لا يصل إلى الجائعين
رغم سماح الجيش الإسرائيلي، تحت ضغط دولي، بدخول مزيد من المواد الغذائية منذ أواخر يوليو، إلا أن الكميات ضئيلة جدًا، والتوزيع يتم بشكل فوضوي لا يضمن وصول الغذاء للمحتاجين.
خبراء من ست وكالات إغاثية أكدوا أن ما يدخل لا يكفي لإيقاف انتشار سوء التغذية، ولا يصل إلى الفئات الأضعف التي تحتاج إلى مكملات غذائية منقذة للحياة. الأطفال تحديدًا، يواجهون خطرًا مضاعفًا بسبب غياب الحليب المدعم والمواد الأساسية.
ويرى اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، أن هذا الإعلان ليس مجرد تقرير أممي، بل إنذار عالمي يهدد بإعادة رسم خريطة التفاعلات في المنطقة بأسرها.
رسائل دولية وضغوط متصاعدة
يؤكد السيد أن الاعتراف الأممي بالمجاعة يوجّه رسائل حاسمة للأطراف الفاعلة، سواء لإسرائيل أو للقوى الإقليمية والدولية. فهو بمثابة وثيقة إدانة تُلزم المجتمع الدولي بالتحرك العاجل، سواء عبر قرارات أممية أو عقوبات محتملة على الأطراف المسؤولة عن تفاقم الأزمة. كما أن هذه الخطوة قد تُعيد فتح قنوات دبلوماسية مغلقة وتدفع نحو تحركات سياسية ضاغطة لوقف النزيف الإنساني في القطاع.
تصعيد أمني يلوح في الأفق
يحذر السيد من أن الكارثة الإنسانية قد تتحول إلى شرارة تصعيد داخلي، حيث تدفع حالة الجوع واليأس إلى احتجاجات أو انفجارات اجتماعية داخل القطاع. ويضيف أن هذا الوضع قد يُحفّز الفصائل المسلحة على تصعيد ميداني ضد إسرائيل، ما قد يؤدي إلى جولات عنف جديدة يصعب السيطرة عليها، خاصة في ظل غياب أي أفق لحلول سياسية جادة.
اختبار للمجتمع الدولي
يشدد الخبير الاستراتيجي على أن العالم أمام اختبار أخلاقي وسياسي حقيقي؛ فإما أن يتحرك لفتح ممرات إنسانية عاجلة وتخفيف الحصار، أو أن يخسر ما تبقى من مصداقيته أمام شعوب المنطقة. ويرى أن استمرار الصمت الدولي لن يؤدي فقط إلى تفاقم المأساة، بل سيغذي مشاعر الغضب الشعبي، ما قد يؤثر على العلاقات بين بعض الدول العربية والقوى الغربية التي تُتهم بالتواطؤ أو الصمت.
توقعات المرحلة المقبلة
يخلص السيد إلى أن إعلان المجاعة في غزة يمثل نقطة تحول استراتيجية قد تُحدد ملامح المرحلة المقبلة. فالأيام القادمة ستكشف ما إذا كان هذا التطور سيدفع المجتمع الدولي إلى تحرك حقيقي يخفف الكارثة، أم أن الصمت والتقاعس سيقودان إلى انفجار أكبر قد يمتد تأثيره إلى ما هو أبعد من حدود القطاع.
بين الصمت والفعل
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد أزمة غذائية عابرة، بل مأساة إنسانية كبرى ستبقى وصمة في جبين المجتمع الدولي إذا لم يتحرك فورًا. إعلان المجاعة يمثل لحظة تاريخية فارقة، اختبارًا للأخلاق والسياسة معًا.
إما أن يختار العالم الفعل ويكسر الحصار لإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح، أو يظل في موقع المتفرج الصامت، تاركًا القطاع يغرق أكثر في دوامة الجوع واليأس، بما قد يفتح أبواب المستقبل على سيناريوهات أشد قسوة ودموية.