استوعب أدب نجيب محفوظ ملامح وتفاصيل الحياة في مصر، وبرع في اختيار الشخصيات التي اتسمت بطابع فريد من نوعه، لتعبر بواقعية عن الواقع المصري، فتشبع بالزمان والمكان، ليعيد إنتاجه في نص أدبي يتضمن مستويين، الأول واقعي والآخر فلسفي، ناقلًا رواياته من مستوى الكتابة الإبداعية إلى الرؤية الأعمق.
فمن الحارة وأزقتها انطلق محفوظ في تصوير النوازع الإنسانية وخفاياها النفسية الغامضة التي تعكس لغة واحدة، هي لغة الإنسان الحائر أمام الوجودية والمصير، من خلال البحث وراء المعاني الكبرى الكامنة وصياغتها في نصوص أدبية مبدعة برؤية فلسفية، متجاوزة الواقع المادي بمعانٍ لها دلالات وإيحاءات رمزية.
وجاء استخدام الرمزية في أدب نجيب محفوظ للتعبير عن عوالم خفية، من خلال تجسيد الأفكار والمشاعر المعقدة في هيئة رموز وشخوص وصور بصرية، وذلك بعد الانتقال من الواقعية إلى الرمزية بعد عام 1959، حيث استخدمها لتجاوز المباشرة، وهو ما فتح آفاقًا متعددة لأعمال العقل.
ورحلة إبداعية الواحدة تلو الأخرى بدءًا برواية أولاد حارتنا الأشهر والأكثر جدلًا لنجيب محفوظ على الإطلاق، والتي أثارت موجة من الغضب والانتقادات، واتُهم فيها الكاتب بالإلحاد، وكاد أن يُقتل على يد أحد المتطرفين بسبب طرحه لقضايا دينية واجتماعية وفلسفية جريئة؛ لتمثل بداية مرحلة جديدة للرمزية والتعبيرية في مسارات أدب نجيب محفوظ، بعد فترة الواقعية التي تُوجت بالثلاثية.
ويسترسل محفوظ في استخدام المجاز والاستعارة في روايات اللص والكلاب، والسمان والخريف، ثم الطريق، مرورًا بثرثرة فوق النيل، وصولًا إلى ميرامار، الحرافيش، انتهاءً بحديث الصباح والمساء، لتضيف هذه الأعمال إلى محفوظ بعدًا آخر مثل نقلة كبرى، متخليًا فيها عن السرد الواقعي التفصيلي والإسهاب الوصفي، لينقل القارئ إلى فضاء أدبي رحب برموز ودلالات وإيحاءات مشفرة، مستعينًا بوجهة النظر المقيدة التي نرى فيها كل شيء من خلال ذهنية الشخصية الرئيسية.
وكانت لغة الحكي إحدى نقاط قوة أدب نجيب محفوظ حيث السهل الممتنع، فنجيب كتب بلغة المصريين في حياتهم اليومية، بجانب عبقريته في حسن تناوله للسرد بآليات بلاغية رفيعة المستوى، واختياره للألفاظ بمفردات ثرية سلسة لتعبر عن كل الطبقات الاجتماعية، فجاء إنتاجه الأدبي ثريًا متنوعًا برؤى مختلفة تتباين بين الواقعية والسياسية والاجتماعية والتعبيرية والرمزية. ولم يكن نجيب محفوظ أديبًا مبدعًا بل مؤرخًا هامًا، فجاء إبداعه مكملاً لحقبة تاريخية لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا بدون قراءة أدب نجيب محفوظ.
فقد تمكن نجيب أن يرصد لنا صورة ذهنية عن حياة المصريين بمختلف طبقاتهم داخل مصر الحديثة، والتحولات الاجتماعية التي طرأت على تفاصيلهم بالتوازي تبعًا للتحولات السياسية والاقتصادية، فأصبحت الحارة المصرية المرتكز الأصيل لأعمال محفوظ الروائية والقصصية، هي إحدى القياسات التي تم بها رصد الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمتغيرات التي حدثت في مصر عبر أكثر من خمسين عاما .
ونحن في سياق أديب جاء بحجم بلد عريق، استطاع أدبه بشخوصه وأفكاره وقوة مفرداته أن ينقل إبداعه من المحلية إلى العالمية، قافزًا فوق حدود الزمان والمكان، فتحولت نماذجه الروائية إلى شخصيات عالمية نتحسسها في رواياته المتجاوزة لحدود الإبداع، وحديث لا ينتهي عن صاحب نوبل، أحد أهم القامات العالمية في مجال الرواية الطويلة.