نستمع ونشاهد كثيرًا من تصرفات البعض التي تشكّل جرائم متنوعة، أبرزها الاستخدام المسيء لوسائل التواصل الاجتماعي.
وقد تساءلت: لماذا تحدث هذه الأفعال؟
بل إن بعض مرتكبيها قد يكونون قد رأوا بأعينهم العقوبات التي طُبقت على غيرهم.
فوجدت بأن العامل المشترك بينها جميعًا هو السخط وعدم الرضا عن الحال، والسعي المحموم نحو الثراء السريع.
بحثت عن "الرضا" في أحوال الماضي، فوجدته كالشمس التي أشرقت على الجميع.
قال المتنبي ذات يوم: "إذا لم يحمل القلب كفه على حالة، لم يحمل الكف ساعد".
فالمتنبي يحثنا على تحمّل ما يصيبنا من هموم وأحزان؛ فالقوة الجسدية وحدها لا تكفي لمواجهة الحياة، ما لم يكن القلب راضيًا ومعينًا.
لن تنقى الروح، ولن يصفو الذهن، إلا برضا القلب وتقبّله للتحديات.
في بيت واحد، رسم المتنبي صورًا بلاغية رائعة تشجّع على الإيمان والرضا، وتُذكّرنا بأن لا قوة حقيقية للإنسان إلا برضاه، وبسواعد الآخرين التي تُبنى على هذا الرضا.
وقالوا أيضًا في الرضا: "وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا".
فالإمام الشافعي يخاطب أهل العقول، محدثًا إياهم عن طبيعة الرضا، فالراضي يتغاضى عن العيوب حتى إن بدت واضحة، أما الساخط فلا يرى إلا العيوب، مهما كانت صغيرة أو حتى غير موجودة.
أما الشاعر العباسي أبو نواس، فقد قال: "سأعطيك الرضا وأموت غمًا، وأسكت لا أغمّك بالعتاب".
في هذا التصوير الشاعري للمحبة والرضا، نلمس أوجهًا من التضحية نراها في الواقع لدى الأساتذة، والأطباء، والمحامين، والآباء، الذين يتحملون ضغوطًا شديدة من أجل من أوكلوا إليهم أمرهم، أو علقوا عليهم آمالهم، وكل ذلك بدافع الرضا بما يصنعون.
فالرضا هو الساعد الأول لمسيرة الحياة، وهو مفتاح إصلاح الحال.
وشتان بين الرضا والسخط!
على الإنسان أن يرضى بحاله، ويؤمن بأن ما قدّره الله له هو الخير، ويرضى كذلك بما رزق الله به الآخرين، دون حسد أو مقارنة.
كما يجب أن يرضى بعلاقاته مع الآخرين، حتى إن كانوا مجرد عابري سبيل في الشوارع.
فالعلاقات لا تستقيم إلا بوجود الرضا بين أطرافها، ما يعزز نموها واستمرارها.
أما إذا زاد سخط الإنسان على نفسه وحاله، تلاشى الرضا، وذبلت العلاقات، وانقطعت.
وفي هذا، يقول الشاعر عبد الله البردوني: "والمرء لا تشقيه إلا نفسه، حاشى الحياة بأنّها تشقيهما ... أجهلُ الإنسان يضني بعضه بعضًا ويشكو كلّ ما يضنيه".
فالمشكلة ليست في الحياة ذاتها، بل في نظرة الإنسان المتشائمة لها، وفي صراعه الداخلي الذي يصنع الشقاء بيديه.
ونصادف في حياتنا أناسًا يحملون براءة الطفولة في تصرفاتهم، يظهر ذلك في عفوية كلماتهم وصدق مشاعرهم.
يعبرون عن امتنانهم الصادق لموقف، أو نصيحة، أو محبة خالصة، دون انتظار مقابل، ويعطون من قلوبهم بلا كلل، حتى في أبسط اللقاءات العابرة.
في النهاية، يجب على الإنسان أن يسير في الطريق الذي مهده الله له، دون أن ينجرف خلف أطماع دنيوية تجعله ساخطًا على الحياة، ومؤذيًا لنفسه وللآخرين.
وأن يتحكم في قاربه -قارب الرضا- ويسير في هذه الدنيا بخطى واضحة ومستقيمة، حتى ينجو من أي خرق قد يُغرقه أو يؤذيه.