وُلد بنيامين نتنياهو أو كما يُعرف بسخرية البعض "بيبي"في 21 أكتوبر 1949 بتل أبيب لعائلة صهيونية متشددة حيث كان والده مؤرخًا يدرس تاريخ اليهود في العصور الوسطى، وكأن إعداد نتنياهو للسيطرة على السياسة الإسرائيلية كان مخططًا له منذ صغره.
وقد نشأ في القدس وسط أجواء من التنافس الفكري والسياسي قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة ويكتسب شهادة في الهندسة المعمارية وإدارة الأعمال من MIT ليصبح “الخبير المثالي” في المناورة بين السياسة والمال .
خدم نتنياهو في وحدة النخبة "ساييرت متكال"حيث تعلّم فنون القتال والإستخبارات وربما أيضًا فنون المناورة السياسية والخداع المبكر قبل أن يبدأ صعوده السريع في الأحزاب الإسرائيلية وصولًا إلى رئاسة الحكومة.
ومن هنا، يمكن القول إن نشأة نتنياهو كانت مزيجًا من عقلية المخابرات وطموحه لا يعرف حدودًا، وخلفية فكرية مهيأة للتشبث بالسلطة مما جعله أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ إسرائيل الحديث.
منذ أكثر من ثلاثة عقود يتصدّر بنيامين نتنياهو المشهد السياسي الإسرائيلي ويقدّم نفسه للعالم كقائد إستثنائي ورجل أمن يعرف كيف يحمي إسرائيل من أعدائها. لكنه في حقيقة الأمر لم يكن سوى زعيم غارق في الفساد والدماء، رجل حوّل السلطة إلى وسيلة لخدمة نزواته الشخصية ومصالحه الحزبية وجرّ دولة كاملة إلى مستنقع من الأزمات الداخلية والعزلة الدولية.
نتنياهو هو أول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل يواجه لوائح إتهام بالرشوة والإحتيال وخيانة الأمانة، ومع ذلك لم يتنحَّ بل حوّل المحاكمات إلى أداة للإبتزاز السياسي مدّعيًا أنه ضحية مؤامرة تُحاك ضده من "النخب" والإعلام. وهكذا أصبح الفساد في عهده سمة ملازمة للسياسة الإسرائيلية وانكشف زيف "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
لكن فضائح نتنياهو المالية من السيجار الفاخر والشمبانيا إلى صفقات الإعلام الفاسدة لم تكن سوى الوجه الأقل دموية في مسيرته. الوجه الآخر هو وجه الدم حيث ارتبط اسمه بأبشع الحروب والإنتهاكات ضد الفلسطينيين وضد شعوب المنطقة. فمنذ عودته إلى الحكم عام 2009 قاد نتنياهو أربع حروب كبرى على غزة في أعوام 2009، 2012، 2014، 2021، وصولًا إلى حرب الإبادة 2023–2024 التي وُصفت بأنها الأسوأ منذ نكبة 1948. هذه الحروب خلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى معظمهم من المدنيين ومن بينهم مئات الأطفال. وقد اعتبرت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" أن ما جرى يرقى إلى جرائم حرب.
حيث المستشفيات دُمرت، والمدارس قُصفت، والبيوت سويت بالأرض وكل ذلك تحت ذريعة "الدفاع عن أمن إسرائيل".
وهنا أتساءل وبشدة من هي إسرائيل ؟!
وأي أمن هذا الذي يدافع عنه ؟!
وقد فتح نتنياهو الباب لأكبر موجة إستيطان منذ 1967 في الضفة الغربية فتمت مصادرة الأراضي وبناء آلاف الوحدات الإستيطانية وهدم مئات المنازل مما جعل "حل الدولتين" مجرد وهم.
وفي عام 2010 أشرف على جريمة جديدة بهجوم قواته على "أسطول الحرية" المتجه إلى غزة مما أسفر عن مقتل عشرة متضامنين أتراك في المياه الدولية في انتهاك صارخ للقانون الدولي. كما ارتبط اسمه باستخدام برامج تجسس مثل "بيجاسوس" ضد صحفيين ومعارضين في العالم وهو ما فضح الوجه الإستبدادي لسياساته.
لم تقتصر جرائم نتنياهو على الفلسطينيين وحدهم، بل امتدت إلى دول أخرى. ففي إيران أشرفت إسرائيل خلال حكمه على إغتيال علماء بارزين في المجال النووي أبرزهم محسن فخري زاده عام 2020.
وفي لبنان وسوريا وتركيا وماليزيا نُفذت إغتيالات لقيادات فلسطينية ولبنانية بعضها وسط العواصم لتؤكد أن "إسرائيل نتنياهو" لا تتورع عن ممارسة الإرهاب العابر للحدود. كما تورطت إسرائيل في عهده في ضربات عسكرية متكررة داخل سوريا ودعمت أنظمة قمعية في إفريقيا مقابل مصالح إقتصادية وسياسية.
باختصار، تحوّل نتنياهو إلى مهندس لإسرائيل المارقة التي تضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط.
وإلى جانب الدم، كان نتنياهو بارعًا في صناعة الخوف فقد جعل من إيران فزّاعة دائمة، ومن الفلسطينيين خطرًا وجوديًا، ومن العرب تهديدًا لا يمكن الوثوق به حتى داخل المجتمع الإسرائيلي غذّى الإنقسام بين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين ليضمن بقاءه في موقع "المنقذ الوحيد". لكنه في الحقيقة لم يكن منقذًا، بل مدمّرًا لكل مقومات الإستقرار كما أنه لم يقدم يومًا مشروع سلام أو إصلاح، بل قدّم مشروع سلطة شخصية حتى وإن كان الثمن تدمير مؤسسات الدولة نفسها.
المفارقة الأكثر فجاجة في مسيرة نتنياهو هي التناقض بين الخطاب الديني الذي يرفعه وبين الجرائم التي يرتكبها. إسرائيل تقدّم نفسها كـ"دولة يهودية" قائمة على القيم التوراتية. لكن أي توراة هذه التي تبرر قتل الأطفال وقصف المستشفيات وسرقة الأراضي؟!
فالوصايا العشر واضحة في التوراة مثل "لا تقتل" (خروج 20:13) ، و"لا تسرق" (خروج 20:15)، "العدل العدل تتبع لكي تحيا"
(تثنية 16:20).
ومع ذلك، دماء الأبرياء تسيل كل يوم تحت حكمه حتى النصوص التي تدعو إلى الرحمة بالغريب والمهاجر مثل: "وأحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (تثنية 10:19) تُسحق يوميًا في سياسات الجدار العازل والطرد والحرمان.
نتنياهو لم يشوّه صورة إسرائيل السياسية فقط، بل شوّه صورة اليهودية نفسها حين جعلها غطاءً لممارسات الإحتلال.
فبينما تطرح التوراة اليهود كـ"نور للأمم"، حولهم نتنياهو إلى رمز للبطش والعنف. وبينما كان المفترض أن تكون الهوية الدينية إطارًا أخلاقيًا تحولت في عهده إلى ستار رخيص يبرر الجرائم.
وهنا يكمن التناقض الجوهري خطاب مقدس في العلن، وجرائم حرب في الواقع.
إن نتنياهو ليس "بيبي" الزعيم كما يحب أن يناديه أنصاره، بل هو تجسيد حي لزيف الدولة العبرية وتاريخه مكتوب بالفساد والدم بالإنقسامات الداخلية وبالإغتيالات والإحتلال والحروب.
وسيبقى في الذاكرة لا كقائد عظيم كما يتوهم، بل كزعيم الفساد والدم الذي جعل من التوراة ستارًا لجرائم لا تسقط بالتقادم وزج بإسرائيل في عزلة دولية وأخلاقية. ومن يدّعي أنه "يحمي إسرائيل" لم يترك وراءه سوى الخراب، ومن يزعم أنه "يمثل الهوية اليهودية" لم يقدّم سوى أبشع صور التناقض بين الدين والسياسة.
ومن أخطر ما يميّز بنيامين نتنياهو أنه لم يكتفِ بالقتل والتوسع العسكري، بل أضفى على جرائمه غطاءً دينيًا عبر اقتباس نصوص توراتية يحرّفها عن سياقها التاريخي. فهو يستند إلى مقاطع من سفر يشوع وسفر التثنية حيث وردت أوامر الإبادة لشعوب كنعان "لا تُبقوا منهم نسمة حيّة، بل حرِّموهم..." (يشوع 6: 21) ليبرر إستباحة الدم الفلسطيني اليوم.
لكن هذا الإستدعاء للتوراة يتناقض بوضوح مع نصوص أخرى تؤكد على العدالة والرحمة مثل "العدل العدل تتبع لكي تحيا" (التثنية 16: 20).
ومن خلال هذا السياق ، أوضح أن التناقض يظهر في أنّ التوراة رغم إحتوائها علي نصوصًا ذات طابع حربي تعكس سياقًا قديمًا، إلا أنها وضعت مبادئ أساسية للعدل الإجتماعي مثل حماية اليتيم والأرملة والغريب (التثنية 24: 17). لكن نتنياهو يغضّ الطرف عن هذه القيم ويستحضر فقط النصوص التي تخدم مشروعه الإستيطاني فيحوّل الدين من دعوة إلى العدالة إلى مبرر لسفك الدماء.
بل الأخطر أن نتنياهو يوظف "رواية الأرض الموعودة" ليمنح شرعية مزيفة لإحتلاله متجاهلًا أن نصوص العهد القديم نفسها ربطت الإستقرار في الأرض بالعدل لا بالظلم (إرميا 7: 5-7). هذا يعني أن سلوكه لا ينسجم حتى مع الشرط التوراتي الأساسي للبقاء مما يكشف زيف هويته الدينية.
وبهذا التحريف المتعمد يصبح نتنياهو نموذجًا سياسيًا يفرغ النصوص المقدسة من معانيها الأخلاقية ليعيد إنتاجها كأداة دموية في تناقض صارخ مع جوهر التوراة ذاته.
وأؤكد بشدة أن نتنياهو ليس إلا مجرمًا متنكرًا في ثوب سياسي وسيُذكر في التاريخ لا كقائد بل كقاتل، لا كزعيم بل كفاسد، ولا كيهودي مؤمن بل كمحرف للتوراة ومشوه للدين ووصم إسرائيل بعارٍ لا يُمحى.
ولنا عودة أشد وقعًا وأقوى هجومًا لنمزّق أوهام نتنياهو ونكشف عار إسرائيل أمام العالم أجمع.