يذكر الفيلسوف والمفكر الفرنسي أندريه مالرو وهو يعقد مقاربة بين شارل ديجول وجمال عبدالناصر، أن كلاهما كان تجسيدا حي لأمته ،فكل منهما تمرد على القوى العالمية في عصره، وتمسك بمنطق الاختيار الحر والاستقلال غير المشروط والانحياز الكامل لوطنه في ظروف كانت بالغة التعقيد.
فكان كل من ناصر وديجول قادرا على الارتفاع فوق الصراعات وتجاوزها وكلاهما كان لديه حلم يشبه المستحيل في تنفيذه ،وهو حلم الوحدة الأوروبية لديجول ،وحلم الوحدة العربية الذي سعى إليه ناصر،ويسترسل مالرو إنه أي ناصر استطاع أن يكون بحجم شخصية مصر،وهي قيمة الرجل التي حفظها التاريخ .
استطاع عبد الناصر أن يكون انعكاسا صادقا لوطنه، تميز بصدق مطلق وشجاعته حاضرة وشكلت إنجازاته هرما يضاهي أهرامات الفراعنة العظام ,ولعل إنجازاته في ملف العدالة الاجتماعية كان النموذج الذي ظل يتطلع إليه الكثيرين بعد رحيله ,فجاء بمجموعة إصلاحات انحازت جميعها للطبقات الكادحة فكان ناصرا كل فقير جعلا له حقا في التعليم والإنتاج والعلاج والعمل ,فكفل الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمهمشين من السواد الأعظم للمصريين.
والدارس لتاريخ الحركات الثورية والاجتماعية في مصر يلاحظ أن المصريين لم يخرجوا إلى الشارع في العصر الحديث بالملايين إلا مرات قليلة معظمها في عهد ناصر سواء تعبيرا عن ثقتهم فيه أو حبا له.
المرة الأولى كانت عام 1956 حينما خرج الشعب بالملايين مؤيدين لقرار ناصر بتأميم قناة السويس ,و الثانية لتجديد الثقة فيه عقب إعلان ناصر التنحي بعد هزيمة67 فجمال عبد الناصر لديهم أكبر من النكسة .
والثالثة عقب سماعهم خبر وفاة زعيمهم وملهمهم, فكان خروجهم الكبير بهذه الأعداد غير المألوفة في ذلك الوقت أمام العالم توديعا لناصر هو الأكبر في التاريخ الحديث .
وزعامة ممتدة متجاوزة الجغرافيا المكانية والحقبة الزمانية، عبر أكثر من نصف قرنا من الزمان تتحول لأسطورة لا تغيب ،وفكرة إنسانية صانعة للتاريخ حالمة و قادرة علي تحقيق المستحيل.
والحكم على إرثه يجب أن يكون في سياق العصر الذي تمت به، وبالموازنة مع التغييرات الجوهرية التي أحدثها في المجتمع المصري، فشخصية تاريخية بحجم جمال عبد الناصر وبحكم تأثيرها الممتد في مجريات أحداث فاصلة ،صنعت تاريخا استثنائيا ومثلت رمزا كبيرا لشعوب العالم وهو ما جعله حيا في وجدانها حتى الآن .
فلم يخلد زعيم في ذاكرة الشعوب مثلما خلد جمال عبد الناصر, فزعامته لم ينته بريقها بوفاته بل ازدادت قوة واتسع تأثيرها وانتقلت لأجيال لم تعاصره, ليس تملقا بل افتتانا بمشروعه السياسي, فهو النموذج الثوري الإصلاحي لشعوب طامحة إلي التحرر والخلاص, لذلك انطبعت صورة عبد الناصر في قلوب الملايين قبل أن تكتب علي صفحات التاريخ .
وسيبقى تاريخ ناصر ركيزة أساسية في تاريخ الوطن دارت في فلكه متغيرات كثيرة ،وستظل ذكراه حاضرة بيننا سواء اتفقنا او اختلفنا حوله رغم أن الاختلاف هو سنة الحياة ، إلا أن الإجماع على وطنية عبد الناصر لا خلاف عليه , فناصر أصاب وأخطأ ولكنه ظل حتى نهاية النفس الأخير مناضلا مقاتلا من أجل حلمه بأمة قادرة قوية ووطن كبير.
مات ناصر جسد لكن ظلت فكرته التي ترسخت في التاريخ الإنساني حاضرة لأجيال متعاقبة طواقة لتحقيق ما عاش لأجله في غد عربي أفضل, وستبقي منجزاته في كل مناحي الحياة محصنة ضد محاولات التشويه وسيظل محورا هاما ومحطة مفصلية يتوقف عندها تاريخ مصر.
منى أحمد تكتب: 55 عاما وناصر.. فكرة لا تموت
