قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. ثروت إمبابي يكتب: اللوجستيات الزراعية.. طريق مصر الذهبي نحو أسواق العالم

د. ثروت إمبابي
د. ثروت إمبابي

منذ أن قال أجدادنا في التراث الشعبي «الأرض أم الغلال» أدرك المصريون أن خيرها لا ينضب، وأن العطاء لا يكتمل إلا حين يجد طريقه إلى الناس. واليوم، ونحن نسعى نحو اقتصاد زراعي حديث يليق بتاريخنا، أصبح تطوير البنية التحتية اللوجستية للمنتجات الزراعية ضرورة وطنية لا مجرد خيار، فالقيمة الحقيقية للمحصول لا تُقاس فقط بجودته في الحقل، بل بقدرته على الوصول إلى الأسواق في الوقت المناسب وبالشكل الذي يحافظ على تميزه ويزيد من تنافسيته.
في الواقع، ما زالت مصر رغم امتلاكها ثروة زراعية ضخمة تعاني من تحديات لوجستية تحدّ من قدرتها التصديرية، فالكثير من المحاصيل تفقد جزءًا من قيمتها أثناء النقل أو التخزين بسبب ضعف أنظمة التبريد والتعبئة، وعدم توافر سلاسل إمداد متكاملة تربط المزارع بالموانئ. ومع ذلك، لا يمكن إنكار الجهود الجارية لتحديث شبكات النقل، وتطوير الموانئ الجافة، وإنشاء مراكز لفرز وتعبئة وتبريد الحاصلات الزراعية في المناطق الإنتاجية، وهي خطوات على الطريق الصحيح لكنها تحتاج إلى تكامل وتنسيق أعمق بين الجهات المختلفة.
من الناحية العلمية والتقنية، لم يعد التصدير يعتمد على جودة المحصول وحدها، بل على دقة تتبعه من لحظة الحصاد حتى وصوله للمستهلك. وهنا يظهر دور التكنولوجيا الحديثة في تطبيق نظم التتبع الذكي (IoT) وتحليل البيانات لتقليل الفاقد وتحسين الكفاءة، إلى جانب الاعتماد على أساليب تعبئة صديقة للبيئة وعبوات ذكية تحافظ على درجة الحرارة والرطوبة. إن بناء سلسلة تبريد متكاملة من الحقل إلى الميناء ليس رفاهية، بل هو ما يميز منتجًا يصمد في الأسواق العالمية عن آخر يُرفض عند الوصول.
اجتماعيًا، يمثل تطوير البنية اللوجستية فرصة ذهبية لإعادة الحياة إلى الريف المصري. فكل محطة تجميع أو مركز تعبئة يمكن أن يكون نواة لتشغيل الشباب والنساء، ويخلق فرصًا اقتصادية محلية تحدّ من الهجرة الداخلية، وتعيد توزيع الدخل بعدالة. كما أن تنظيم صغار المزارعين في جمعيات أو شركات تعاونية يتيح لهم النفاذ إلى خدمات متطورة لم تكن في متناولهم من قبل، ويمنحهم القدرة على المنافسة بدلًا من التهميش.
أما اقتصاديًا، فكل خطوة في تحديث منظومة اللوجستيات تعني زيادة في الصادرات وتقليلًا في الهدر. فحين تُختصر مدة النقل، وتتحسن جودة المنتج، وتنخفض تكاليف التخزين، يزداد العائد على الدولة والمزارع معًا. كما أن تنويع الأسواق والتوجه نحو منتجات ذات قيمة مضافة — مثل المنتجات العضوية أو المصنعة جزئيًا — يرفع مكانة مصر في التجارة الزراعية العالمية. ومن هنا أرى أن الاستثمار في اللوجستيات الزراعية يجب أن يكون في صدارة أولويات الدولة، لأنه ليس مجرد تطوير بنية تحتية بل بناء لمستقبل اقتصادي متكامل.
أما من الناحية البيئية، فإن تطوير اللوجستيات يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع مبادئ الاستدامة. فاعتماد الطاقة الشمسية في محطات التبريد والنقل الكهربائي في الشحن الداخلي يسهم في خفض الانبعاثات الكربونية، كما أن استخدام مواد تعبئة قابلة للتحلل يقلل من التلوث البلاستيكي ويحافظ على النظام البيئي الزراعي. هذه الرؤية البيئية ليست ترفًا، بل جزء من متطلبات الأسواق العالمية التي باتت تشترط معايير الاستدامة في استيرادها للمنتجات الزراعية.
ومن وجهة نظري الشخصية، فإن نجاحنا في تطوير هذه المنظومة لن يتحقق إلا بإدارة موحدة لسلاسل القيمة الزراعية تجمع بين المزارع والمصدر والميناء في إطار رقمي حديث، مع تعزيز ثقافة الجودة لدى جميع العاملين في القطاع. كما يجب أن نتعامل مع اللوجستيات الزراعية باعتبارها مشروعًا وطنيًا شاملًا، يتداخل فيه الاقتصاد بالعلم، والسياسة بالبيئة، والتنمية بالعدالة الاجتماعية. إن الاستثمار في هذا المجال يعني ببساطة الاستثمار في الإنسان المصري نفسه، وفي أرضٍ ما زالت قادرة على العطاء متى وجد من يحسن تنظيم جهدها وتسويق نتاجها.
وهكذا، فإن تطوير البنية التحتية اللوجستية لدعم تصدير المنتجات الزراعية المصرية ليس مجرد عملية نقل أو تخزين، بل هو رؤية تنموية متكاملة تضع مصر في موقعها الطبيعي على خريطة التجارة الزراعية العالمية، وتحول «الأرض أم الغلال» من مثل شعبي إلى واقع اقتصادي يلمسه الفلاح والمستهلك والدولة معًا.