في زمن كانت فيه السماء حكرا على الطيور والملائكة، ولد في إسطنبول رجل قرر أن يكسر القاعدة، اسمه هزارفن أحمد جلبي، العالم والمخترع العثماني الذي آمن أن الحلم لا يظل حلما الا إذا صيغ بالعلم والإصرار.
في القرن السابع عشر، وتحديدا في عهد السلطان مراد الرابع، كانت العاصمة العثمانية تعيش أزهى عصورها، كان هزارفن شابا فضوليا، مولعا بعلوم الطبيعة والفيزياء، يقضي ساعات طويلة في دراسة حركة الطيور ومجرى الرياح. وقد لفت ذكاؤه وشغفه انتباه السلطان نفسه، فقربه إليه وجعل منه صديقا ومستشارا في شؤون العلم والتجريب، وكان كثيرا ما يتحاور معه في الليالي الطويلة عن أسرار الكون والاختراع.
لكن جلبي لم يكتف بالكلام، في صباح بارد من عام 1632، صعد إلى برج غلاطة الشاهق، يحمل على كتفيه أجنحة صنعها بيديه من الخشب والحرير والريش، مستلهمًا من الطيور التي طالما راقبها، وبين دهشة سكان إسطنبول، ألقى بنفسه من أعلى البرج، فانفتح الهواء تحت جناحيه، وحلّق في السماء، عابرا مضيق البوسفور من قارة أوروبا إلى آسيا، ليهبط في منطقة أُسكُدار بعد رحلة أسطورية دونتها الذاكرة إلى الأبد.

كان السلطان مراد الرابع يتابع المشهد من قصره بذهول وفخر، فابتسم وقال:
"لقد امتلك هذا الرجل علما عظيما، لكنه أخطر من أن يُترك بلا حدود."
وقيل إنه أرسل صديقه القديم إلى الجزائر ليواصل تجاربه هناك بعيدا عن ضجيج البلاط. ورغم هذا النفي الهادئ، ظل هزرفن رمزا للشجاعة والعقل الباحث عن المستحيل، واعتبره المؤرخون أول من حاول الطيران بنجاح في التاريخ الإنساني قبل قرونٍ من الأخوين رايت.
واليوم، بعد ما يقارب أربعة قرون، تبدو تركيا وكأنها تُكمل ما بدأه ابنها الطائر.
من مصانع الطيران في قونية وأنقرة، إلى الطائرات المسيرة والمقاتلات الحديثة التي صارت تنافس كبريات الصناعات العالمية، تسير تركيا بخطى ثابتة نحو السماء التي حلم بها هزارفن جلبي.
بيرقدار قزل إلما
في مقدمة هذا الحلم الحديث، تقف بيرقدار قزل إلما (التفاحة الحمراء)، المسيرة الشبحية التي تمثل ذروة ما وصلت إليه التكنولوجيا التركية في الطيران الحربي. ليست مجرد طائرة بلا طيار، بل مقاتلة ثورية تجمع بين الذكاء الصناعي والسرعة والتخفي، وتعيد تعريف مفهوم التفوق الجوي في القرن الحادي والعشرين.
تستطيع قزل إلما أن تنفذ عمليات هجومية دقيقة بسرعات تتجاوز ألف كيلومتر في الساعة، وأن تقلع من حاملات الطائرات مثل السفينة تي جي غي أناضولو دون الحاجة إلى مدرج طويل.
تعمل بأنظمة رادار متقدمة تتيح لها اكتشاف الأهداف دون أن تكتشف، وتحمل ذخائر ذكية موجهة تستطيع ضرب أهدافها في البر أو البحر بدقة مدهشة، كما يمكنها التحليق لعدة ساعات متواصلة، مما يمنحها قدرة على القيام بمهام طويلة الأمد.
تزن عند الإقلاع نحو 6 أطنان، وتستطيع حمل ما يقارب 1500 كيلوجرام من الأسلحة والمعدات، لتكون واحدة من أبرز الطائرات المسيرة الهجومية في العالم.
هذه الطائرة ليست فقط ثمرة العلم والتقنية، بل هي استمرار لروح تركية قديمة آمنت بأن الطيران ليس ترفا، بل قدر ومصير.
كما حلق هزرفن فوق البوسفور ذات صباح من عام 1632، تحلق اليوم “قزل إلما” في سماء تركيا والعالم، تجسيدا لحلم بدأ من جناحين من ريش وخشب، وامتد إلى أجنحة من فولاذ وذكاء صناعي.
ما زال برج غلاطة شامخا في قلب إسطنبول، يروي للزوار قصة الرجل الذي آمن أن الجغرافيا لا تحد الخيال، وأن الطموح يمكن أن يعبر القارات بجناحين من شغف.
وفي كل طائرة تركية جديدة تحلق في السماء، يُمكن أن نسمع صدى صوته القديم يهمس: “السماء كانت حلمي.. فاجعلوها واقعكم.”