تشهد الولايات المتحدة الأمريكية اضطرابا متزايدا في سوق العمل مع اتساع نطاق حملة الرئيس دونالد ترامب ضد الهجرة، التي تشمل ترحيل العمال ذوي الأجور المنخفضة وتشديد القيود على دخول الكفاءات الأجنبية، في خطوة يرى خبراء الاقتصاد أنها ستنعكس سلباً على النمو وفرص التوظيف خلال الأعوام المقبلة.
يأتي هذا التشديد في وقت يتراجع فيه معدل التوظيف بالفعل، وسط ضبابية متزايدة بشأن سياسات التجارة والإنفاق الحكومي، ما يثير مخاوف من دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة تباطؤ ممتدة، بحسب وكالة "أسوشيتيد برس" الأمريكية.
وألغت إدارة ترامب في أغسطس الماضي برنامج "الإفراج الإنساني" الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، والذي منح تصاريح عمل قانونية لمهاجرين من كوبا وهايتي وفنزويلا ونيكاراجوا، في قرار أدى إلى فقدان آلاف المهاجرين لوظائفهم في قطاعات خدمية وزراعية وصناعية حيوية.
وحذر خبراء الاقتصاد من أن المهاجرين يمثلون عنصرا أساسيا في دعم سوق العمل الأمريكي، حيث يشغلون وظائف يندر أن يقبلها الأمريكيون المولودون في الداخل، مثل الزراعة والتنظيف والخدمات اللوجستية، فضلا عن مساهماتهم في قطاعات التقنية والابتكار.
وأوضح ميلون لي برانستتر، الخبير الاقتصادي من جامعة كارنيجي، أن "المهاجرين مفيدون للاقتصاد، لأن تدفقهم خلال السنوات الخمس الماضية ساهم في الحد من ارتفاع الأسعار وكبح التضخم"، مضيفا أن غيابهم سيؤدي إلى نتائج عكسية تتمثل في تباطؤ النمو وارتفاع تكاليف الإنتاج.
وبحسب تقرير مشترك لمعهد "بروكينجز" ومؤسسة "أمريكان إنتربرايز"، فإن خسارة العمالة الأجنبية قد تجعل نمو الوظائف في الولايات المتحدة "قريبا من الصفر أو سلبيا في السنوات المقبلة"، في حين أظهرت بيانات وزارة العمل تباطؤا حادا في وتيرة التوظيف، بمتوسط 29 ألف وظيفة شهريا فقط بين يونيو وأغسطس، مقارنة بـ400 ألف وظيفة شهريا خلال طفرة ما بعد الجائحة بين 2021 و2023.
كما خفض مكتب الميزانية في الكونجرس توقعاته للنمو الاقتصادي لعام 2025 إلى 1.4% مقارنة بـ1.9% في تقديراته السابقة، مستشهدا بتأثير سياسات الهجرة والتجارة على الإنتاج والاستهلاك المحلي.
وتشير بيانات مؤسسات الرعاية والخدمات إلى آثار مباشرة للإجراءات الجديدة، ففي ولاية فيرجينيا اضطرت مؤسسة "جودوين ليفينج" غير الربحية إلى فصل أربعة موظفين من هايتي بعد إلغاء تصاريح عملهم ضمن البرنامج الإنساني، فيما يهدد القرار نحو 60 عاملا آخرين في المؤسسة نفسها بفقدان وضعهم القانوني المؤقت.
وقال الرئيس التنفيذي للمؤسسة روب ليبريخ إن الإجراءات الجديدة "جعلت من الصعب سد النقص في الممرضين والمعالجين وعمال الصيانة"، مشيرا إلى أن 60% من موظفي المؤسسة البالغ عددهم 1500 موظف ينحدرون من خلفيات أجنبية.
ويستند ترامب في حملته إلى قانون جديد وقعه في الرابع من يوليو، خصص 150 مليار دولار لتعزيز إنفاذ قوانين الهجرة، بينها 46.5 مليار لتوظيف 10 آلاف عميل جديد في وكالة الهجرة والجمارك، و45 مليار لتوسيع مراكز احتجاز المهاجرين، ويسمى القانون "قانون المشروع الجميل الكبير" بحسب الجمهوريين.
لكن التطبيق العملي لهذه السياسات أثار انتقادات واسعة بعد أن داهمت سلطات الهجرة مصنعا تابعا لشركة "هيونداي" في ولاية جورجيا واحتجزت 300 عامل كوري جنوبي، رغم أن وجودهم كان ضروريا لتشغيل خطوط الإنتاج ونقل الخبرة التقنية للعمال المحليين، وأثار الحادث غضب الحكومة الكورية الجنوبية التي حذرت من أن مثل هذه الممارسات قد تثني الشركات الأجنبية عن الاستثمار في السوق الأمريكي.
ويمتد تأثير القيود الجديدة إلى القطاع الزراعي، الذي يعتمد بشكل كبير على العمالة المهاجرة، وقال جون بويد جونيور، رئيس "الرابطة الوطنية للمزارعين السود"، إن مداهمات سلطات الهجرة ألحقت أضرارا كبيرة بالمزارعين الذين يواجهون بالفعل انخفاض الأسعار وارتفاع التكاليف وتداعيات الحرب التجارية مع الصين.
كما حذرت وزارة العمل الأمريكية في تقرير نشرته في الثاني من أكتوبر من أن "التوقف شبه الكامل لتدفق العمال غير النظاميين، إلى جانب نقص القوى العاملة القانونية المتاحة، يؤدي إلى اضطرابات كبيرة في تكاليف الإنتاج ويهدد استقرار إنتاج الغذاء المحلي وأسعاره للمستهلكين الأمريكيين".
وأكد محللون أن القطاعات التي تعتمد على المهاجرين، مثل البناء والخدمات والضيافة، بدأت بالفعل تتكبد خسائر في الوظائف، إذ فقدت شركات البناء وحدها أكثر من 10 آلاف وظيفة منذ مايو، ويحذر خبراء من أن الآثار طويلة الأمد ستكون أكثر خطورة، إذ لطالما أسهم المهاجرون بنسبة تفوق حصتهم في براءات الاختراع والابتكار والإنتاجية داخل الاقتصاد الأمريكي.
وزادت المخاوف بعد إعلان ترامب الشهر الماضي رفع رسوم تأشيرة "إتش-1بي"، المخصصة للعمال المهرة، من 215 دولارا إلى 100 ألف دولار، واعتبر داني بهار، الزميل البارز في "مركز التنمية العالمية"، أن القرار "ليس مجرد عبء مالي بيروقراطي بل رسالة واضحة للمواهب العالمية مفادها: أنتم غير مرحب بكم هنا".
ويرى محللون أن هذه السياسة المزدوجة، التي تستهدف العمال منخفضي الدخل والمهارات العالية على حد سواء، قد تعيد تشكيل سوق العمل الأمريكي بصورة تضعف قدرته التنافسية وتؤثر على مسار النمو خلال السنوات المقبلة.