في قلب القارة الإفريقية، تتوالى فصول المأساة السودانية، ويعلو صدى الألم من مدينة الفاشر، التي تحولت إلى عنوان جديد للجراح المفتوحة في جسد السودان المنهك بالحرب.
بينما يواصل المدنيون دفع الثمن الباهظ لصراع لا يعرف رحمة، تتعالى أصوات القلق من العواصم العالمية، كان أبرزها من موسكو، التي أعربت عن قلقها البالغ من تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في المدينة المنكوبة، وسط تحذيرات من أن ما يجري في دارفور قد يكون مقدمة لتقسيم جديد يهدد وحدة السودان وسلامة أراضيه.
موسكو تدق ناقوس الخطر
أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا شديد اللهجة أعربت فيه عن قلقها العميق إزاء ما يجري في مدينة الفاشر، مشيرة إلى تقارير تتحدث عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ومجازر مروّعة بحق المدنيين.
وأكد البيان، الذي نقلته وكالة "سبوتنيك" الروسية، أن العنف ضد السكان المدنيين أمر غير مقبول ويتنافى مع قواعد القانون الإنساني الدولي، داعية الأطراف المتنازعة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المدنيين وضمان أمنهم وسلامتهم.
وشددت موسكو على تمسكها بالحل السلمي للأزمة السودانية التي دخلت عامها الثاني، مؤكدة أن الطريق الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم هو الحوار الوطني الشامل، ووقف فوري للأعمال العدائية، حفاظًا على وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه.
نبيل السيد.. السودان يواجه أخطر مراحله منذ الاستقلال
وفي السياق ذاته، أعرب اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، عن بالغ قلقه من تطورات الأوضاع المتسارعة في السودان، واصفًا ما يحدث بأنه “أخطر مرحلة تمر بها الدولة السودانية منذ استقلالها”، بعد سقوط مدينة الفاشر آخر معاقل الحكومة السودانية في إقليم دارفور بيد ميليشيات الدعم السريع.
وأكد اللواء نبيل السيد أن ما يجري ليس مجرد صراع داخلي على السلطة، بل هو صراع له أبعاد إقليمية ودولية، تتداخل فيه أطراف تسعى إلى تفكيك السودان وإعادة رسم حدوده العرقية والقبلية، في تكرار لمأساة انفصال الجنوب عام 2011.
مخطط التقسيم الجديد.. من دارفور إلى كردفان
وأوضح اللواء نبيل السيد أن ميليشيات الدعم السريع، ، تنفذ اليوم ما وصفه بـ“المرحلة الثانية من مخطط التقسيم”، عبر السيطرة على دارفور بالكامل، تمهيدًا لإعلانها كيانًا منفصلًا عن الدولة الأم.
وأشار إلى أن السيطرة على الفاشر تمثل تحولًا استراتيجيًا خطيرًا، لأنها العاصمة الإدارية لولاية شمال دارفور، وأحد أهم المراكز الجغرافية التي تربط بين كردفان، وليبيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، ما يمنح الميليشيات قدرة على التحكم في الإمدادات والطرق الحيوية، ويمنحها نفوذًا واسعًا على كامل الشريط الغربي للسودان.
وأضاف أن هذا التطور يعني أن “الجيش السوداني خسر أحد أهم خطوط دفاعه، وأن الدعم السريع أصبح يمتلك الآن مساحة استراتيجية تمكنه من الضغط العسكري والسياسي في أي مفاوضات مستقبلية”.
دور خارجي وتمويل مشبوه
وشدد اللواء نبيل السيد على أن ما يجري ليس بعيدًا عن أيادٍ خارجية، مشيرًا إلى أن هناك “دولاً تموّل ميليشيات الدعم السريع بالسلاح والعتاد، وتوفر لها الغطاء السياسي والإعلامي”، في محاولة لتمرير مشروع تقسيم السودان إلى ثلاث دويلات: شمال، وشرق، وغرب (دارفور).
وأوضح أن دعم تلك القوى للانفصاليين يأتي “في إطار مشروع أوسع لإضعاف المنطقة بالكامل، وإبقاء السودان ساحة مفتوحة للفوضى والاقتتال الداخلي، مما ينعكس مباشرة على الأمن القومي المصري والعربي”.
وقال اللواء نبيل السيد: “ما يحدث في دارفور ليس مجرد معركة على الأرض، بل هو إعادة رسم لخرائط النفوذ في قلب إفريقيا، ومن لا يرى ذلك فهو لا يدرك حجم المؤامرة.”
جرائم ضد الإنسانية
عبّر الخبير الاستراتيجي عن صدمته من التقارير الإنسانية الواردة من الفاشر، مشيرًا إلى أن ميليشيات الدعم السريع ارتكبت جرائم بشعة.
وأوضح أن التقارير الصادرة عن القوة المشتركة المتحالفة مع الجيش السوداني تشير إلى إعدام أكثر من ألفي مدني في الفاشر خلال يومين فقط (26 و27 أكتوبر)، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، مضيفًا أن الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية تؤكد حجم الكارثة.
وقال اللواء نبيل السيد إن هذه الممارسات ليست أعمالًا عشوائية، بل “تطهير عِرقي متعمد” يهدف إلى تفريغ الإقليم من سكانه الأصليين وخلق واقع ديموغرافي جديد، يُستخدم لاحقًا كورقة ضغط لتبرير فكرة “الانفصال الذاتي”.
دارفور.. القلب الذي ينزف
توقف اللواء نبيل السيد عند الأهمية الاستراتيجية لإقليم دارفور، موضحًا أنه يمثل نحو ربع مساحة السودان، ويعد أحد أغنى المناطق بالموارد الطبيعية والمعدنية، فضلًا عن موقعه الجغرافي الذي يجعله بوابة السودان إلى إفريقيا الوسطى.
وقال اللواء نبيل السيد إن “الفاشر لم تسقط في يوم، بل بعد شهور من الحصار والتجويع والقتل، في ظل صمت دولي ”.
رسالة إلى المجتمع الدولي
ووجّه اللواء نبيل السيد رسالة حادة إلى المجتمع الدولي، مؤكدًا أن الاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة “لن يوقف حمام الدم”.
وطالب بضرورة فرض عقوبات فورية على قادة الدعم السريع، ووقف إمدادات السلاح القادمة إليهم، وإرسال بعثة مراقبة دولية لتوثيق الانتهاكات، مؤكدًا أن “ما يحدث في دارفور ليس حربًا أهلية بل جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس”.
السودان في مفترق طرق
واختتم السيد تحليله بالقول إن السودان يقف اليوم على حافة الانهيار الكامل، وإن ما يجري في دارفور ليس نهاية المعركة، بل بداية فصل جديد من الصراع على هوية الدولة ومستقبلها.
وقال: “إما أن يتوحد السودانيون خلف جيشهم وقيادتهم لإنقاذ الوطن، أو أن تنجح قوى التقسيم في تحويل السودان إلى خريطة من الدويلات المتناحرة.”
وختم مؤكدًا أن على العالم، وخاصة الدول العربية والإفريقية، أن تتحرك لإنقاذ السودان الآن، لأن سقوطه لن يهدد حدوده فقط، بل سيصيب الأمن القومي العربي والإفريقي في مقتل.
بين الانقسام والنجاة
بين مأساة الفاشر وصمت العالم، يقف السودان اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: الانقسام أو النجاة.
فإما أن تنتصر إرادة شعبه في الحفاظ على وحدته، أو أن تنجح قوى الظلام في تحويله إلى ساحة دائمة للفوضى.
ووسط كل ذلك، تبقى الفاشر جرحًا مفتوحًا في جسد إفريقيا، وصرخة في وجه العالم بأن الإنسانية لا تزال في اختبار صعب أمام مأساة تتكرر بلا نهاية.