في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، تتغير طبيعة الصراعات لتصبح أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً مما كانت عليه في العقود السابقة. لم تعد الحروب التقليدية التي تعتمد على المواجهات العسكرية المباشرة هي السمة الغالبة، بل دخلنا في مرحلة جديدة من الصراع تُعرف بـ"الحروب الهجينة". وهي صيغة متعددة الأبعاد تجمع بين إستخدام الأدوات السيبرانية، والإعلامية، والإقتصادية، والميليشيات، والحرب النفسية، بهدف تحقيق أهداف إستراتيجية دون إعلان الحرب رسمياً. وفي هذا الإطار، تبرز إسرائيل كلاعب رئيسي يستخدم هذه الأدوات بفعالية كبيرة، مما يشكل تهديداً حقيقياً لأمن وإستقرار المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل.
إسرائيل، بفضل تفوقها التقني والإستخباراتي، باتت تمارس حرباً هجينة متطورة تستهدف تفكيك الدول من الداخل، وزعزعة إستقرارها عبر إستخدام أساليب متقدمة في الحرب السيبرانية، والتجسس الرقمي، والدعاية الموجهة التي تزرع الشك والتفرقة في المجتمعات. لا تقتصر هذه الحرب على ضرب الأهداف العسكرية فحسب، بل تمتد لتشمل البنية التحتية الحيوية، والإقتصاد، والوعي الجمعي، الأمر الذي يجعلها أكثر خطورة وأصعب في المواجهة من الحروب التقليدية.
وتتضح خطورة هذا النوع من الحروب في المنطقة من خلال تفشي حالات الضعف الإقتصادي والسياسي والإجتماعي في كثير من دول المنطقة، وهو ما يستغله الخصوم، وعلى رأسهم إسرائيل، لزيادة الإنقسامات الداخلية، ودعم ميليشيات مسلحة، وتوجيه حملات إعلامية تهدف إلى ضرب الثقة بين الشعوب وحكوماتها. هذه الحالة من الإستنزاف الداخلي تجعل مواجهة التهديدات الخارجية أكثر صعوبة، وتفتح المجال أمام إسرائيل لتكريس نفوذها والتأثير في موازين القوى الإقليمية لصالحها.
في ظل هذا الواقع المتشابك، تبرز مصر كقوة إقليمية مركزية حيوية تمتلك من المقومات ما يؤهلها للعب دور فاعل وحاسم في مواجهة تحديات الحروب الهجينة. فمصر ليست فقط أكبر دولة عربية من حيث السكان، بل لديها مؤسسات أمنية وعسكرية متطورة قادرة على تطوير قدراتها السيبرانية، وتعزيز منظومات الدفاع الإلكتروني لحماية البنى التحتية الحيوية. كما تدرك القاهرة أن المواجهة لا تقتصر على الجانب العسكري أو الأمني فقط، بل تشمل بناء وعي شعبي قوي من خلال الإعلام الوطني والتثقيف المجتمعي لرفع مستوى الفهم بأدوات الحرب النفسية والإعلامية التي تُستخدم ضد الدول العربية.
وعلى المستوى الإقليمي، تلعب مصر دوراً محورياً في تنسيق الجهود العربية لمواجهة هذه التحديات، من خلال تعزيز التعاون الأمني والإستخباراتي مع الدول الشقيقة، والمشاركة الفعالة في المبادرات التي تهدف إلى حماية الأمن الإلكتروني، وتبادل المعلومات بشأن التهديدات السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي. هذا التنسيق هو السلاح الذي يمكن من خلاله الحد من نفوذ الجهات التي تسعى إلى تفتيت المنطقة وزعزعة إستقرارها.
ومع ذلك، فإن مصر وحدها لن تستطيع مواجهة هذا التحدي المعقد إلا من خلال توحيد الجهود العربية، وتعزيز العمل الجماعي الذي يدمج القدرات العسكرية والتقنية والسياسية والإعلامية في إستراتيجية شاملة لمواجهة الحروب الهجينة. لا بد من دعم تطوير القدرات الوطنية في مجال الأمن السيبراني، والإستثمار في بناء جيل واعٍ مدرك لخطورة الحملات الإعلامية المضادة التي تحاول تشويه الحقائق وزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
أخيراً، يجب أن يكون التحذير واضحاً للجميع: إن التهاون أو الإستخفاف بخطورة الحروب الهجينة التي تستخدمها إسرائيل، أو أي جهة أخرى، قد يؤدي إلى خسائر إستراتيجية يصعب تعويضها.
المنطقة أمام مرحلة دقيقة تتطلب يقظة مستمرة، وتخطيطاً إستراتيجياً متكاملاً، ووعياً جماعياً لمواجهة تهديدات جديدة لا تقل خطورة عن الحروب التقليدية، لكنها أكثر تعقيداً وأشد تأثيراً على أمن واستقرار الشعوب والدول.
إن مسؤولية مواجهة هذا الخطر تقع على عاتق كل دولة عربية، وفي مقدمتهم مصر التي يجب أن تستمر في لعب دورها الوطني والإقليمي بجدية وحزم، لتكون ركيزة صلبة في بناء مستقبل آمن ومستقر للشرق الأوسط كله.