النظر للمرآة يجعل الكثير منا يعاود الاهتمام بنفسه، أو يحاول أن يجمل ما يراه من تفاصيل؛ كي يشعر بالارتياح والانشراح، أو يحرص على أن تكون وقفته خاطفة فلا يمعن النظر، وهنا تتعالى صوت الأرواح داخل الأبدان، وتحاول أن تحدث انسجامًا وتآلفًا وتعانقًا مع مكنون النفس، وما يصدر من نغمات أصواتنا وتعبيراتنا الجياشة، وتتعاطى لهفة وسط نبضات القلوب ودقاته المتوالية؛ لتشعرنا بالطمأنينة؛ حينئذ نرى جمال الحياة في تفاصيلها؛ لكنها في ذات الوقت تبحث عمن يكملها أو تكتفى بما لديها، وهذا نراه بوضوح في صورة العلاقة التي تربطنا بمن يشبهنا، مثلما نرى أنفسنا بالمرآة؛ فنكتشف الظاهر والباطن دون وجل، أو زيف، أو خداع.
ما نود أن نصدع به أن المرآة تمتلك لغات لا تراها إلا عين بصيرة؛ حيث تجد الأمن والطمأنينة في صورة من ترافقه، وعيش سخاء عطاء من يسير على دربها المفعم بالحيوية، وتتطابق مغزى الأصوات التي تصدر من كليهما؛ ومن ثم تتقابل الميول في خضم مفردات يتم الاستمتاع بها رفيقا الدرب، وتتقارب المسافات عبر تدبر، وتفكير منتج، يقوم على فلسفة الإيجابية دومًا، ونزيد دون مبالغة بأن خلجات القلوب تشعر ببعضها؛ فالتباين لا مكان ولا مساحة له، وهنا لا مجال للتبرير، ولا مساحة للتطويل نحو تصرفات أضحت يرتضيها الطرفان، وهذا يعني أن ثمة توافق كلي حول رؤى المستقبل، الذي تراه العيون مشرقًا.
العاطفة الكامنة في جنبات النفس، ويغلفها الوجدان، وتترجمها المشاعر، يصعب أن تنكرها المرآة؛ لكن دعونا لا ننكر معدلات، ومستويات، ونسب النضج لدى الإنسان، وهذا لا يشكل التباين الذي يخيفنا، بل، يترك فرصة سانحة لخوض التجربة؛ فيحدث جمال التطابق مع مرور الزمن، وهو ما يعبر بقوة عن جمال التشابه، ورقى الاختلاف، الذي لا يؤدي للتنافر؛ لكن يزيد من حالة الشجن، ويحقق التوازن؛ فتنعكس السلوكيات على إيجابية الاحتواء؛ لذا تنمو العلاقة على أرض خصبة، تملؤها السكينة، وتحميها ثوابت التفاهم، وتعضدها رصانة العقول، وتضمن استقرارها قلوب متآلفة.
المرآة الوضاءة تبرهن صورها عن حالة التجذر بين الطرفان؛ فتؤكد على الحيوية، وتدحر ماهية الذبول والفتور، وشتى مناحي السلبية؛ فلا مجال للركود، ولا مقام للتنحي؛ إنها حالة تجمع ما بين الاستقرار والفعالية، وما بين الأمان والدافعية، وما بين الانشراح والانبساط، وما بين الصفاء والإشراق؛ ومن ثم تصبح الرحلة في سبيلها للتطور، والاندماج بين الهدوء وحيوية التفاعل مداد الحب، الذي لا ينقطع فيض عطاؤه، وعند نقاط التلاقي لا يتوالد بين الطرفان الملل، ولا يضعف التواصل، ولا يغيب الشغف.
النظر في المرآة لا يجعلنا نحدد في صورة العلاقة بعض نقاط القصور، التي يجب أن نستكملها ونستوفيها من بعضنا البعض؛ فالراحة تكمن في أن نجد من يضيف لنا؛ لكن لا متعة في أن نخرج بنسخة واحدة؛ فماهية اللذة في الحياة تقوم على أمرين، أحدهما التكامل، والآخر تذوق نعيمها في وجود الطرفان، وهنا نرصد حالة من التقابل، تجعل مساحات الترحاب ممتدة، والود متصل، والأمل والطموح قائم، وهجران الهواجس المهددة لبقاء الأركان لا وجود لها في الخلد، وهذا ما يؤكد صدق الرؤى، من خلال مرآة صادقة، تعكس حالة الإدراك، ولا تركز على عنصر المشابهة، المقوَّضة في كثير من الأحيان لماهية الاستقرار.
إذا ما أظهرت لنا المرآة تباينًا؛ فلا ننزعج؛ كي لا يصبح الاختلاف مائدة للجدال، أو طريقًا للنزاع، أو مهدًا لتكريس لغة الأنا الضارة دون شك بالذات؛ فهناك مزيد من الفرص المواتية؛ لأن نفتح مجالًا للعفوية المعبرة عما يجوش في النفس، وما تحمله الصدور، وما تعبر عنه الأحاسيس؛ ومن ثم نعزز مسارات الإعجاب، وتصبح المرآة عاكسة لمعان، يصعب أن تخرجها كلمات تطوف دلالتها في الخيال، وتقبع في الخلد، وتتبعثر في سجايا الوجدان.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.