قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عبد السلام فاروق يكتب: الصحافة والأدب

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

بين الحين والآخر، يعود ذلك السؤال ليطرق وجداننا بلطف: من أين تستمد الإبداعات العظيمة وجودها؟ هل تأتي فجأة، كالوحي الذي يهبط على قلب مبدعها، أم هي ثمرة شاقّة لتجارب حياتية تتراكم كطبقات الصبر؟ وكثيراً ما انساق خيالنا إلى تصور يزعم أن الأدب يحلق في فضاءات عليا، منفصلاً عن مهن الحياة اليومية، وأن على الكاتب الحقيقي أن يعتزل في برجه العاجي كي يبدع.

لكن اعترافاً صادقاً كالذي نطق به روائي بحجم فارجاس يوسا، حين نسب إلى الصحافة فضل "انهمار فيض إبداعه الأدبي"، وأن عملاً ضخماً مثل "حوار في الكاتدرائية" لم يكن ليرى النور لولا تجاربه الصحفية، يضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة بالغة الثقل: إنها علاقة الجذر بالشجرة، والأرض بالثمرة.

ففي غرف الأخبار المشبعة برائحة الحبر، والهمس الخافت للآلات الكاتبة، وفي شوارع المدن التي يجوبها الصحفي بحثاً عن نبض الخبر، وفي اللقاءات مع الشخصيات بين أعلى درجات المجتمع وأكثرها تواضعاً، هناك تصنع مادة الحياة الخام. هناك يلتقي الأديب بالإنسان في أبسط حالاته وأعمقها، في صراعاته وأحلامه. هناك تختبر اللغة قدرتها، فلم تعد مجرد حروف مرصوصة في كتاب، بل أداة للوصف والدقة والنقل الأمين.

لقد كانت الصحافة ليوسا ــ كما كانت لعمالقة آخرين ــ "الكاتدرائية" الحقيقية التي تدرب فيها على إجراء حواراته مع الواقع والتاريخ والمصير. ففي "حوار في الكاتدرائية"، ذاك العمل الفذ الذي يغوص في أعماق المجتمع البيروفي تحت وطأة دكتاتورية أودريا، لا نقرأ عن شخصيات خيالية فحسب، بل نعيش داخل لوحة ضخمة مرسومة بدقة المؤرخ، وصدق الشاهد، وبراعة الروائي.

تلك الدقة في وصف الأماكن، وتلك المصادفات العابرة التي تتحول إلى مصائر، وتلك الخيوط الخفية التي تربط بين القصر الرئاسي وحانة الفقراء، كلها لم تكن لتخرج بهذا العمق لولا عين الصحفي المدربة على رؤية ما لا يراه الآخرون، وعلى التقاط التفاصيل الصغيرة التي تحكي القصة الكبيرة.

الصحافة، بهذا المعنى، هي أشبه بـ "تمرين يومي على الواقع". إنها تمنع الكاتب من الانكفاء داخل أسلوبه أو عالمه الضيق، فترميه كل يوم في فيضان الأحداث، وتلزمه بالوضوح والإقناع والاتصال  بالقراء. إنها تذكره أن الكلمة تحمل مسئولية، وأن الجملة الجميلة التي تخلو من المضمون كالطائر المحنط: جميل الشكل، لكنه بلا حياة.

ولعل في تجربة يوسا ما يرد بهمة على أولئك الذين يفصلون بين "الأدب الرفيع" و"الكتابة الوظيفية". فالأدب العظيم لا ينبت تحت أبراج العاج، بل في حقل الحياة اليومي الواسع. وقد كانت الصحافة هي المحراث الذي قلب تربة تلك الحياة ليوسا، فأنضجها وأعدها لاستقبال بذور روائعه.

فلا عجب إذن أن نجد بصمات هذه المهنة العظيمة في أعمال عمالقة آخرين: من إرنست همنجواي، الذي صقل جمله القصيرة البليغة في غرف أخبار الصحف، إلى جورج أورويل الذي شكلته تجاربه كشرطي في بورما ومقاتل في إسبانيا، وصولاً إلى جابرييل جارثيا ماركيز الذي لم يفارق عقله أنه صحفي حتى وهو ينسج أعظم أساطير الواقعية السحرية.

إنها الدروب المتعددة التي تؤدي إلى روما. فالإبداع بحر واسع، تأتيه المياه من كل النواحي: من نهر التجربة الشخصية، ومن جدول القراءة والنقل، ومن أمطار الموهبة الفطرية، ومن ينابيع المهن والحرف التي يمارسها المبدع.

واليوم، ونحن نشهد تحولات جذرية في عالم الصحافة والأدب معاً، يظل درس فارجاس يوسا مناراً يضيء الطريق: أن الخبرة المباشرة بالواقع، والاحتكاك اليومي بهموم الناس وأفراحهم، والتدريب على كتابة تحترم عقل القارئ ووقته، تظل من أغنى المنابع للإبداع الحقيقي الذي لا ينقطع عن واقع الحياة، ولا ينسى أن أعظم الكلمات هي تلك التي تخرج من قلب المعمعة لتصفها، لا من فوقها لتهرب منها.

فالصحافة هي المدرسة التي تخرج منها أدباء كباراً، حملوا معهم منها لا القلم المدبب والعين الفاحصة، والقلب المنفتح، والإيمان بأن للكلمة سلطاناً، إذا ما أحسنا صنعها، يمكن أن يغير العالم.

الحبر والحقيقة
كصحفي يعيش في معمعة الأحداث، ويواجه كل يوم سيلاً من الأخبار والمتغيرات، كثيراً ما سألت نفسي: أين يقع الحد الفاصل بين ما نخطه في صفحات الجرائد، وما ننسجه في رواياتنا وقصصنا؟ وكيف تتحول تفاصيل الواقع المباشر إلى مادة أدبية تخلد عبر الزمن؟

لطالما شغلني هذا السؤال، حتى وجدت جزءاً من الإجابة في كلمات الروائي الكبير فارجاس يوسا، حين قال إن للصحافة الفضل في "انهمار فيض إبداعه الأدبي". عبارة قد تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طياتها سراً إبداعياً عظيماً.

فنحن، معشر الصحفيين، نعيش في ورشة الحياة اليومية. نحفر في تفاصيلها، نلمس جراحها، نشارك في أفراحها. نقف على حواف الأحداث الكبرى، وننحني لالتقاط همسات البشر العاديين. هذه التجارب هي التربة الخصبة التي تنبت منها بذور الإبداع.

تأملوا معي رواية "حوار في الكاتدرائية" ليوسا. إنها لوحة اجتماعية ضخمة، رسمها كاتب يعرف مجتمعه معرفة الجراح للجسد. هذه المعرفة لم تأت من برج عاجي، بل من سنوات التجوال في شوارع ليما، ومن لقاءات لا تحصى مع السياسيين والعمال والنساء والبائسين.

كم مرة وقفنا في مواقف مماثلة؟ كم مرة شعرنا بأن التفاصيل التي نراها، والحوارات التي نسمعها، والمشاهد التي نعيشها، تخفي في طياتها بذوراً لأعمال أدبية كبرى؟

الصحافة تعلمنا أن ننظر بعين لا تغفل التفاصيل. تعلمنا أن نستمع ليس فقط لما يقال، بل لما يكتم أيضاً. تدفعنا للبحث عن الخيط الخفي الذي يربط بين الأحداث الظاهرية. هذه المهارات بعينها هي ما يحتاجه الأديب حين يبني عالماً روائياً متماسكاً.

غير أن في الأمر تحدياً جميلاً. فالصحفي مقيد بالزمن، محكوم بمساحة العمود، ملتزم بالواقع المباشر. بينما الأديب يحتاج إلى حرية المساحة، ورفاهية الوقت، وجناحي الخيال. لكن يوسا يقول لنا إن هذا التناقض الظاهري يمكن أن يتحول إلى تكامل خلاق.

فالانضباط الذي تفرضه علينا مهنة المتاعب، والدقة في نقل الوقائع، والوضوح في التعبير، كلها صفات تصقل موهبة الكاتب. كما أن التعامل المباشر مع جمهور القراء يعلمنا كيف نصل إلى قلوبهم وعقولهم.

وكصحفيين كتاب، نحن أمام مسئولية مضاعفة: مسئولية نقل الواقع كما هو، ومسئولية تحويله إلى فن يخلد. نحن جسر بين الحقيقة والجمال، بين الواقع والخيال، بين اليومي والأبدي.

لعل هذا ما يجعل كتابات الصحفيين الأدباء تحمل مصداقية خاصة. فهي لا تنبع من فراغ، بل من معايشة حقيقية لتناقضات المجتمع وتعقيداته. إنها الكتابة التي تخرج من قلب المعركة، لا من برج مرتفع عنها.

في أيامنا هذه، حيث تتسارع وتيرة الأحداث، وتتعدد منابع المعرفة، ربما يبدو الأدب وكأنه ترف. لكن تجربة يوسا وتجارب سواه من الكتاب الذين خاضوا غمار الصحافة، تثبت أن الأدب الذي ينبع من صلب الواقع هو الأقدر على البقاء، والأجدر بملامسة أعماق الإنسان.

فلنستمسك إذن بقيمة ما نجمعه يومياً من قصص وتفاصيل. فقد تكون بينها بذور رواية عظيمة، أو قصة خالدة. فالحياة التي نعيشها كصحفيين هي روايتنا الكبرى التي لم تكتب بعد.