ورد الى دار الإفتاء المصرية سؤالا تقول صاحبته: ما حكم الدم النازل بعد الإجهاض؟فامرأةٌ كانت حاملًا في جنين، ثم قدَّر الله عليها الإجهاض وهي في الشهر الثاني من الحمل، فما الحكم الشرعي في الدم النازل مِنها بعد هذا الإجهاض؟ هل يعدّ نفاسًا؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: بداية تخلُّق الجنين في رحم أمه تكون بتمام ثمانيةٍ وعشرين يومًا، وتُحسَب هذه الأيام مِن أول يومٍ في آخِر حيضةٍ نزلت عليها قبل حصول الحمل، والدَّم النازل بعد سقوط الحمل الذي هذا وصفُه هو دم نفاس، ومن ثم فإن الدم النازل على المرأة المذكورة بعد الإجهاض في الشهر الثاني من ثبوت حملها في جنينٍ طبيًّا يُعَدُّ دمَ نفاسٍ شرعًا، وتجري عليه أحكامه.
حكم الدم النازل بعد الإجهاض
قد اتفق الفقهاء على أنَّه إذا سقط الجنين بعد مرور مائةٍ وعشرين يومًا من الحمل وهي المدة التي تُنفخ لتمامها الروح، فإن الدم النازل بعده هو دم نفاس؛ لأنه بعد نفخ الروح فيه قد أصبح إنسانًا قد نفخت فيه الروح، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق ذكره. ينظر: "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين الحنفي (1/ 302، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" للإمام أبي البَرَكَات الدَّرْدِير المالكي (2/ 474، ط. دار الفكر)، و"الغرر البهية" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي (4/ 352، ط. المطبعة الميمنية)، و"الإنصاف" للإمام علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي (1/ 387، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمَّا إذا سقط الحمل لأقلَّ مِن مائةٍ وعشرين يومًا: فالمعوَّل عليه عند الفقهاء في هذه الحالة هو تبيُّن أنَّ هذا السقط كان حملًا بجنينٍ فعلًا حتى يُحكم بأن النازل بعده هو دم نفاس، وقد سلكوا في سبيل ذلك مَسَالِكَ عدةً، الغايةُ منها هي التيقُّن مِن أنَّ الخارج مِن الرحم جنينٌ قابلٌ للتخلق فيكون الدمُ النازلُ بَعدَه دمَ نفاسٍ ويأخذ أحكامه، وليس مجرد دم جامد أو غير ذلك مما يمكن أن يشتبه على النساء فيكون الدم حيضًا أو استحاضةً على ما فَصَّلُوهُ مِن أقوالٍ للتمييز بين الحيض والاستحاضة.
فالحنفية والحنابلة اشترطوا للحكم بأن الدم نفاسٌ أن تستبين خِلْقةُ الجنين السقط أو بعضُها حتى يُتيقَّن أنَّ الخارج مِن رحم المرأة وَلَدٌ أو بداية خَلْق الولد ولو خَفِيَ ذلك بحيث لا يعرفه إلا ذوو الخبرة وأهل التخصص، وذلك باعتبار أن استبانة الخِلْقة علامة على وجود الحمل بجنين فعلًا فيكون إلقاؤه ولادةً، لا بمجرد دم لا يتخلق منه إنسانٌ فلا يكون حملًا أصلًا ولا يكون إلقاؤه ولادةً.
جاء في "الأصل" المعروف بـ"المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشَّيْبَانِي الحنفي (1/ 340، ط. دار القرآن والعلوم الإسلامية بكراتشي): [قلتُ: أرأيتَ السقط إذا استبان خَلْقُهُ، هل يكون بمنزلة الولد؟ وتكون المرأة فيه بمنزلة النفساء؟ قال: نعم] اهـ.
وقال الإمام مَجد الدين أبو الفضل ابن مَوْدُود المَوْصِلِي الحنفي في "الاختيار لتعليل المختار" (1/ 31، ط. مكتبة الحلبي): [قال: (والسقْطُ الذي اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ وَلَدٌ) فتصير به نُفساء] اهـ.
قال الإمام أبو السعادات البُهُوتِي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 122، ط. عالم الكتب): [(ويثبت حُكمُه) أي: النفاس (بوضع ما تبين فيه خَلْق إنسان) ولو خفيًّا؛ لأنه ولادة] اهـ.
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي في "بدائع الصنائع" (3/ 196، ط. دار الكتب العلمية) في توجيه القول بعدم الاعتبار في الولادة بإلقاء المرأة ما لَم يَستَبِن خَلْقُه: [لأنه إذا استبان خَلْقُه أو بعضُ خَلْقه فهو ولدٌ، فقد وُجِدَ وضعُ الحمل، وإذا لَم يَسْتَبِنْ لَم يُعلَم كونُه وَلَدًا، بل يحتمل أن يكون ويحتمل ألَّا يكون، فيقع الشك في وضع الحمل] اهـ.
بينما اكتفى المالكيةُ والشافعيةُ بأن يكون السقطُ مُبْتَدَأَ خَلْقِ ولدٍ حتى يكون مِن نحو الولادةِ فيُحكم بأنَّ الدمَ النازل بعده نفاسٌ، إلا أنهم اختلفوا فيما يُعد مبتدأ خَلْقِ ولدٍ وما لا يُعد كذلك من مراحل الحمل:
فذهب المالكية في المشهور إلى أن مبتدأ خَلْق الولد قد يُتيقن به قبل مرحلة العَلَقَة التي هي من أطوار الجنين بمجرد أن ينعقد الدم ويجتمِع في أول طَوْرٍ من أطوار الحمل بالجنين، وهو أيضًا قولُ الإمام الحسن البصري، إذ اعتَبَر لمثل ذلك كلَّ ما تَعلَم فيه المرأةُ مِن نفسها أنَّه حملٌ، فيشمل ما كان مبتدأ جنين مِن أول أيام الحمل به، ومِن ثم فمتى ألقَتِ المرأةُ دمًا منعقدًا مجتمِعًا تَعلَم منه أنه حملٌ بولدٍ فإن الدم النازل بعده نفاس.
وذهب الشافعية والإمام أشهب من المالكية إلى أن مبتدأ خَلْق الولد إنما يُمكن التيقن به في مرحلة العَلَقَة فما بَعدها، و"العَلَقة: الدم المُجْتَمِعُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لا يَذُوب، لا الدم المُجْتَمِعُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ يَذُوب"، كما قال الإمام أبو عبد الله الخَرَشِي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (8/ 32)، ومِن ثم فمتى ألقَتِ المرأةُ عَلَقَة فإن الدم النازل بعدها نفاس.
فعن الحسن البصري رحمه الله: "إذا أَلْقَتِ المرأةُ شيئًا تَعلَمُ أنه حَمْلٌ.. انقَضَت به العدةُ" أخرجه الإمامان: ابن أبي شيبة في "المصنف"، وعَبْدُ بن حميد في "تفسيره". وإذا كانت العدَّة مِن الأحكام التي سببُها فراغُ الرحم مِن الحمل بالولد، فكذلك "الدَّمُ الْخَارِجُ بَعْدَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِن الْحَمْل" يعد نفاسًا، كما في "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرَّمْلِي (1/ 323، ط. دار الفكر).
وقال الإمام ابن رُشْد الجد المالكي في "المقدمات" (3/ 201، ط. دار الغرب الإسلامي) بعد أن ذكر المشهورَ في المذهب من أن وضع الحمل يصدُق على إلقاء الدم المنعقد المجتمِع ولو قَبل مرحلة العَلَقَة، وقولَ الإمام أشهب من أن وضع الحمل إنما يصدُق على إلقاء العَلَقَة: [ووَجْهُ قول أَشْهَب: أنه قد يُتَيَقَّنُ أنه وَلَدٌ وإن لم يكن مُضغةً إذا كان عَلَقةً. ووَجْهُ قول ابن القاسم وروايته عن مالك: أنه قد يُتَيَقَّنُ أنه وَلَدٌ بكونه دمًا وإن لم يكن بَعْدُ عَلَقةً ولا مُضغةً] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الرَّصَّاع المالكي في "شرح حدود ابن عرفة" (ص: 104، ط. دار الغرب الإسلامي) في تعريف "النفاس": [قال الشيخ رضي الله عنه ورحمه ونفع به: (دمُ إلقاءِ حملٍ) فقوله: (دم) جنسٌ يشمل الحيض والاستحاضة، وقوله: (إلقاء حمل) يخرجهما.. قال الشيخ: فيدخل فيه دمُ إلقاء الدَّم المجتَمِع على المشهور] اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن العدوي المالكي في "حاشيته على كفاية الطالب الرباني" (2/ 240، ط. دار الفكر) في بيان ما يصدُق عليه أنه وضعُ حملٍ قبل مرحلتَي المُضغة والعَلَقَة: [وكذلك الدَّم المُنْعَقِد على المشهور] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (1/ 174، ط. المكتب الإسلامي): [وسواء في حكم النفاس كان الولدُ كاملَ الخِلْقة أو ناقِصَها أو ميتًا، وألقَت مُضغة أو عَلَقة، وقال القَوَابِلُ: إنه مبتدأ خَلْق آدمي، فالدَّم الموجود بعده نفاس] اهـ.
وقال الإمام البُجَيرِمِي الشافعي في "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 233، ط. دار الفكر): [ويتعلَّق بالعَلَقَةِ أحكامٌ ثلاثةٌ: وجوب الغسل، وإفطار الصائمة، وتسمية الخارج عقبها نفاسًا] اهـ.
فيتحصل مِن ذلك: أن العلة عند الفقهاء في ثبوت دم النفاس هي أن يكون نزول الدَّم مرتبطًا بانْفِرَاجِ الرحم عن الولَدِ؛ "لِأَنَّهُ وِلَادَةٌ" -كما هي عبارة الإمام أبي السعادات البُهُوتِي مِن الحنابلة-، سواء أكان تامَّ الخِلْقةِ أم ناقصَها ما دام التخليق قد بدأ، وسواء أكان حيًّا أم ميتًا، وأن المرجع عندهم في تحديد استبانة الجنين هو المشاهدة والوجود كما تفيده عبارات الفقهاء، وأن إخبار أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم بهذا أو ذاك هو المُعْتَدُّ به في المقام الأول، باعتبار ممارستهم التوليدَ، وخبرتهم المتراكمة في معرفة أحوال الأجِنَّة، والتمييز بين ما يكون أصلَ ولدٍ ومبتدأ خَلْقه مِن غيره، وأن تعليقهم الحكم بالحمل والنفاس -حال السقط قبل مضي مائة وعشرين يومًا- على هذه الأمور، إنما هو للتثبُّت والتيقُّن مِن وجود الحمل بالولد على الحقيقة، لا أنه مجرد دمٍ حَبَسَهُ الرحمُ قد لا يتخلق منه الجنين، سواء قلنا بأن السبيل إلى ذلك هو العِلم بابتداء خلق الجنين كما هو مَسلَك المالكية والشافعية، أو هو الاطلاع على استبانة هذا الخَلْق كما هو مَسلَك الحنفية والحنابلة، والغرض من ذلك إنما هو عدم ترتيب الأحكام على مجرد الظن والاحتمال كما بيَّنَّا.



