تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم الصلاة في البيوت حال المطر؟ فقد اعتاد رجلٌ الصلاة في المسجد مع الجماعة، إلا أنه يصعب عليه ذلك في الشتاء عند سقوط الأمطار بغزارة شديدة وصعوبة السير في الطريق المؤدية إلى مسجد بلدته في هذه الحالة، فهل له أن يصلي في البيت حينئذٍ وتُجزِئُه كصلاتهِ في المسجد؟
وأجاب عن السؤال أ. د نظير محمد عياد - مفتي الجمهورية وقال: يجوز شرعًا للمسلم أن يصلي في بيته حين يصعب عليه الصلاة مع الجماعة في مسجد بلدته في الشتاء عند سقوط الأمطار بغزارة شديدة وصعوبة السير في الطريق المؤدية إليه.
وتابع: ومما يدل على ذلك: ما ورد عن نافعٍ أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، فَقَالَ: "أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ"، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» متفقٌ عليه. والمقصود بـ"الرِّحَال": البيوت والمنازل. فإن كان معه غيره في البيت كزوجته وأولاده أو غيرهم صَلَّى معهم جماعةً ما تَيَسَّر لهم ذلك، وهو الأَوْلَى، وإلا صَلَّى منفردًا، وله في الحالتين الثوابُ كاملًا كما لو صَلَّى مع الجماعة في المسجد ما دام معتادًا عليها ولَمْ يَمنعه من حضورها إلا هذا العذر.
فإن انتفى الضَّرر وارتفع الحرج وزال العذر بانقطاع المطر الشديد وجفاف الأرض ونحو ذلك من آثار المطر التي حبسته عن الذهاب إلى المسجد لصلاة الجماعة -فإن عليه أن يَرجع إلى ما كان عليه بألَّا يَحرِمَ نفسَه مِن الخير ومضاعفة الأجر وعظيم الثواب بالسعي إلى المسجد لصلاة الجماعة.
مدى حصول الأجر للمسلم الذي مُنِع عن العبادة لعُذر
هذا وقد نصَّ الفقهاء على أنَّ مَن مُنِع عن العبادة بالعُذر لا يَنقُص في الأجر، وذلك ما دام معتادًا وممارِسًا لتلك العبادة على وجهها ولم يمنعه عن أدائها إلا ذلك العذر، إذ نقصانُ أجره بالعذر فرعُ الجزاء على ذلك العذر، لا فرع التفضُّل بقبول العذر، وفضل الله تعالى -وهو أكرم الأكرمين- أوسَعُ مِن أن يَضِيق بالمعذور فيُنقِصَه أجرَه أو يحاسِبَه على قَدْر عملِه، إنما يحاسِبه على قَدْرِ فضلِهِ سبحانه؛ وذلك لِمَا ورد عن أبي موسى الأَشْعَرِي رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتب مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ، فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا، أَوْ حَضَرَهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، وأبو داود والنسائي في "السنن".
قال الإمام ابن بَطَّال في "شرح صحيح الإمام البخاري" (3/ 102، ط. مكتبة الرشد): [ولا خلافَ بينَ العلماءِ أنَّهُ لا يقالُ لِمَنْ لا يَقْدِرُ على الشَّيء: لَكَ نِصْفُ أَجْرِ القَادِرِ عَلَيْهِ، بَل الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه مَن مَنَعه اللهُ وحبسهُ عَنْ عملهِ بمرضٍ أوْ غيرهِ، فإنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَهُو صَحيح] اهـ.
وقال الإمام الشُّرُنبُلَالِي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 113،ط.المكتبة العصرية): [(وإذا انقطع عن الجماعةِ لعذرٍ مِن أعذارها المبيحةِ للتخلف) وكانت نيتُه حضورُها لولا العذر الحاصل (يحصل له ثوابُها)] اهـ.
وقال الإمام ابن أبي زيد القَيْرَوَانِي المالكي في "النوادر والزيادات" (1/ 259، ط. دار الغرب الإسلامي): [قالَ ابنُ حَبِيب.. مَنْ أَقْعَدَهُ مَرَضٌ أوْ ضَعْفٌ عَنْ أَنْ يقومَ فَهُو في ثَوابِه كالقائمِ في الفرضِ والنافلةِ] اهـ. فأفاد أنَّ الممنوع بالعذر كالمعافَى في اكتمال الأجر، ومثله المعذور في حضور جماعة المسجد.
وقال الإمام نجم الدين ابن الرِّفْعَة الشافعي في "كفاية النبيه" (3/ 549، ط. دار الكتب العلمية) بعد أن ساق ما تُترك به جماعة المسجد مِن الأعذار: [واعلم أنَّ هذه الأعذار كما تنفي الحرج عن التَّارك، تحصل له فضيلة الجماعة وإن صلى منفردًا إذا كان قصدُه الجماعةَ (لولا العذر؛ للأخبار) الواردة في ذلك] اهـ. والقول بكمال الأجر هو ما "اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ فِيمَنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ ثُمَّ حَبَسَهُ الْعُذْرُ"، كما نقله الشيخ عَمِيرَة في "حاشيته على شرح الإمام المَحَلِّي على منهاج الطالبين" (1/ 260، ط. دار الفكر).
قال الإمام جمال الدين الإِسْنَوِي في "الهداية إلى أوهام الكفاية" (20/ 157- 158، ط. دار الكتب العلمية) مصوبًا قولَ الإمام ابن الرِّفْعَة بحصول الثَّواب لمن منعه العذرُ مِن العمل: [وما نقله ثانيًا مِن حصول الثواب، نقله أيضًا في "البحر" عن القَفَّال، وارتضاه وجَزَم به أيضًا الغَزَالِي في "الخلاصة"، وهو الصواب] اهـ.
وقال الإمام برهان الدين ابن مُفْلِح الحنبلي في "الفروع" (2/ 417، ط. مؤسسة الرسالة): [لو صلى منفردًا لم يَنقُص أجرهُ مع العُذر] اهـ.



