بعيدًا عن ضجيج السياسة التقليدية، تدور في الكواليس حرب أكثر خطورة وتأثيرًا، حرب لا تُخاض بالدبابات والطائرات، بل بالرقائق الإلكترونية، والليزر، والمختبرات السرية. إنها الحرب على عقول المستقبل، حيث أصبحت أشباه الموصلات العمود الفقري لكل ما نستخدمه يوميًا، من الهواتف الذكية والذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى أنظمة التسليح المتقدمة. وفي قلب هذه الحرب، برز تطور لافت قلب موازين كثيرة، بعدما كشفت تقارير صحفية، أبرزها لوكالة «رويترز»، عن نجاح الصين في بناء أول نموذج محلي لآلة الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUV)، وهي التقنية التي سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها لسنوات إلى منع بكين من الوصول إليها.
آلة واحدة تتحكم في العالم
ليست آلات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة مجرد معدات صناعية، بل يمكن اعتبارها «مفتاح القوة» في القرن الحادي والعشرين. هذه الآلات قادرة على نقش دوائر إلكترونية على رقائق السيليكون بدقة مذهلة، أصغر بآلاف المرات من سمك شعرة الإنسان. وكلما صغرت هذه الدوائر، زادت قوة الرقاقة، وانخفض استهلاكها للطاقة، وارتفعت كفاءتها.
لهذا السبب، تحتكر شركة واحدة في العالم، هي «ASML» الهولندية، تصنيع هذه الآلات العملاقة، التي يصل سعر الواحدة منها إلى نحو 250 مليون دولار، وتضم آلاف القطع الدقيقة القادمة من موردين حول العالم، أبرزهم شركة «كارل زايس» الألمانية المتخصصة في الأنظمة البصرية فائقة التعقيد.
شنتشن.. حيث كُسر الحصار
في مختبر شديد الحراسة بمدينة شنتشن، التي تُعرف بأنها عاصمة التكنولوجيا الصينية، يعمل فريق من العلماء والمهندسين منذ سنوات في صمت تام. ووفقًا لمصادر «رويترز»، تمكن هذا الفريق من بناء نموذج أولي لآلة EUV، يشغل مساحة تقارب طابقًا كاملًا من المصنع، في إنجاز اعتبره مراقبون ضربة مباشرة للقيود الأميركية.
النموذج الأولي، الذي اكتمل بناؤه مطلع عام 2025، لا يزال في مرحلة الاختبار. ورغم أنه لم ينتج بعد رقائق عاملة تجاريًا، إلا أنه نجح في توليد الأشعة فوق البنفسجية الشديدة المطلوبة، وهي الخطوة الأصعب والأكثر تعقيدًا في هذه الصناعة.
الهندسة العكسية.. السلاح الصيني القديم الجديد
كما فعلت الصين في مراحل تاريخية سابقة، اعتمدت هذه المرة أيضًا على سلاح أثبت فعاليته: الهندسة العكسية. وهي عملية تقوم على تفكيك منتج متطور، وفهم مكوناته وآلية عمله، ثم إعادة بناء المعرفة التي تقف خلفه.
وبحسب مصادر مطلعة، استفادت الصين من توفر قطع غيار لآلات ASML القديمة في الأسواق الثانوية، ما أتاح للباحثين فرصة ثمينة لدراسة مكونات هذه الأجهزة المعقدة، ومحاولة إعادة إنتاجها محليًا. ورغم أن الطريق ما زال طويلًا، فإن مجرد الوصول إلى نموذج أولي يُعد اختراقًا كبيرًا.
تقديرات الغرب… وواقع جديد
في أبريل الماضي، صرّح الرئيس التنفيذي لشركة ASML، كريستوف فوكيه، بأن الصين ستحتاج إلى «سنوات طويلة» لتطوير تقنية EUV محليًا. غير أن ظهور هذا النموذج الأولي يشير إلى أن بكين قد تكون أقرب إلى الهدف مما كان يُعتقد، وربما بسنوات أقل من التقديرات الغربية.
مصادر داخل المشروع تقول إن الحكومة الصينية تستهدف إنتاج رقائق عاملة باستخدام هذا النموذج بحلول عام 2028، لكن آخرين يرون أن عام 2030 هو الموعد الأكثر واقعية. وحتى هذا التاريخ يُعد مبكرًا مقارنة بتوقعات المحللين الذين رجّحوا أن تتأخر الصين لعقد كامل عن الغرب.
أشباه الموصلات على رأس أولويات شي جين بينغ
لا يأتي هذا المشروع من فراغ. فمنذ سنوات، وضع الرئيس الصيني شي جين بينغ صناعة أشباه الموصلات على رأس أولويات الأمن القومي. وأُطلقت قبل نحو ستة أعوام مبادرة حكومية ضخمة، شاركت فيها شركات كبرى، وحكومات محلية، وجامعات، ومراكز أبحاث، بهدف تحقيق استقلال تكنولوجي كامل عن الغرب.
وتندرج هذه الجهود ضمن الاستراتيجية الوطنية لأشباه الموصلات، التي يديرها، بحسب الإعلام الرسمي، دينغ شيويه شيانغ، رئيس اللجنة المركزية للعلوم والتكنولوجيا التابعة للحزب الشيوعي الصيني.
هواوي… العقل المدبر في الظل
تلعب شركة هواوي دورًا محوريًا في هذا المشروع العملاق. فبحسب مصادر متعددة، تقوم هواوي بتنسيق شبكة واسعة من الشركات ومعاهد البحوث الحكومية في مختلف أنحاء الصين، تضم آلاف المهندسين والعلماء.
ويصف بعض المطلعين هذا المشروع بأنه «نسخة صينية من مشروع مانهاتن»، في إشارة إلى البرنامج الأميركي السري الذي طوّر القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية. الفارق هنا أن السلاح ليس نوويًا، بل تكنولوجيًا.
سلسلة صناعة معقدة لا يتحكم بها أحد وحده
لفهم حجم التحدي، لا بد من النظر إلى سلسلة صناعة أشباه الموصلات كاملة. فشركة ASML تصنع آلات الطباعة الحجرية، لكن الرقائق نفسها تُنتج في مصانع عملاقة مثل «TSMC» التايوانية، و«سامسونغ» الكورية، و«إنتل» الأميركية. أما تصميم الرقائق فيقع على عاتق شركات مثل «إنفيديا» و«AMD»، التي تسعى لتحقيق أعلى أداء بأقل استهلاك للطاقة.
أي خلل في هذه السلسلة، أو سيطرة طرف واحد عليها، يعني امتلاك نفوذ هائل على الاقتصاد العالمي والتفوق العسكري.
قيود أميركية ومحاولات إقصاء ممنهجة
منذ عام 2018، بدأت الولايات المتحدة بالضغط على هولندا لمنع ASML من بيع أنظمة EUV للصين. وتوسعت هذه القيود في عام 2022، عندما فرضت إدارة الرئيس جو بايدن ضوابط تصدير شاملة استهدفت قطع وصول الصين إلى تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة.
وأكدت ASML أنها لم تبع أي نظام EUV لأي عميل صيني. ولم تقتصر القيود على هذه الأنظمة فقط، بل شملت أيضًا آلات الطباعة بالأشعة فوق البنفسجية العميقة (DUV)، الأقدم نسبيًا، في محاولة لإبقاء الصين متأخرة بجيل كامل على الأقل.
مشروع مانهاتن الصيني.. السرية قبل كل شيء
داخل مجمع شنتشن، تسود إجراءات أمنية غير مسبوقة. فبحسب مصادر مطلعة، جرى توظيف مهندسين صينيين مخضرمين كانوا يعملون سابقًا في ASML، ومنحوا بطاقات هوية بأسماء مستعارة، مع تعليمات صارمة باستخدام هذه الأسماء داخل المنشأة فقط.
ولا يُسمح لأي شخص خارج المجمع بمعرفة ما يجري داخله، أو حتى معرفة هوية العاملين فيه. ويخضع كل مكتب لمراقبة بكاميرات فردية، لتوثيق عمليات التفكيك وإعادة التجميع، في محاولة لتسجيل كل خطوة معرفية.
صراع العقول… من أوروبا إلى بكين
لم يقتصر الأمر على استقطاب خبراء صينيين فقط، بل شمل أيضًا علماء ومهندسين من جنسيات أخرى، حصل بعضهم على جوازات سفر صينية، مع تجاوز شرط عدم ازدواج الجنسية.
ووفقًا لوثائق حكومية راجعتها «رويترز»، عرضت الصين مكافآت توقيع تتراوح بين 3 و5 ملايين يوان، إضافة إلى دعم لشراء المنازل، ضمن حملة أطلقت عام 2019 لاستقطاب خبراء أشباه الموصلات من الخارج.
تحديات تقنية هائلة
رغم هذا التقدم، لا يزال النموذج الصيني متأخرًا تقنيًا عن أجهزة ASML. فأنظمة EUV الأحدث تطلق أشعة ليزر على قصدير منصهر بمعدل 50 ألف مرة في الثانية، مولّدة بلازما بدرجة حرارة تصل إلى 200 ألف درجة مئوية، ويتم تركيز الضوء عبر مرايا فائقة الدقة يستغرق إنتاجها شهورًا.
وتبقى الأنظمة البصرية العقبة الأكبر أمام الصين، خاصة في ظل صعوبة تعويض خبرة شركة «كارل زايس» الألمانية.
معاهد بحثية ورواتب بلا سقف
ساهم معهد تشانغتشون للبصريات والميكانيكا الدقيقة والفيزياء التابع للأكاديمية الصينية للعلوم في تحقيق اختراق مهم، مكّن النموذج من بدء التشغيل أوائل عام 2025. ومع ذلك، لا يزال النظام بحاجة إلى تحسينات كبيرة.
وفي خطوة لافتة، أعلن المعهد في مارس الماضي عن تقديم رواتب «غير محدودة» لباحثي الدكتوراه في مجال الطباعة الحجرية، ومنح بحثية تصل إلى 4 ملايين يوان، إضافة إلى إعانات شخصية سخية.
علماء ينامون في مواقع العمل
داخل هواوي، تسود أجواء استثنائية. فالموظفون العاملون في فرق أشباه الموصلات غالبًا ما ينامون في مواقع العمل، ويُمنعون من العودة إلى منازلهم خلال أيام العمل، مع تقييد استخدام الهواتف، خاصة للفرق التي تتعامل مع مهام حساسة.
ولا يعلم سوى عدد محدود من الموظفين الصورة الكاملة للمشروع، إذ تُعزل الفرق عن بعضها البعض حفاظًا على السرية. وكما قال أحد المطلعين: «كل فريق يعرف جزءًا فقط من الحقيقة».
ما حققته الصين في شنتشن لا يعني أنها كسرت احتكار الغرب بالكامل بعد، لكنه يبعث برسالة واضحة.. سياسة الحصار التكنولوجي قد تؤخر المنافس، لكنها لا توقفه. ومع كل نموذج أولي، وكل مهندس يُستقطب، وكل براءة اختراع تُسجل، تقترب بكين خطوة جديدة من هدفها الأكبر، وهو الاستقلال التكنولوجي الكامل.
وفي عالم باتت فيه الرقائق الإلكترونية وقود الاقتصاد والحرب معًا، يبدو أن الصراع على آلة الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية ليس مجرد سباق صناعي، بل معركة على من يملك مفاتيح المستقبل.