في عالم اليوم، الذي كثر فيه التعصّب، وضعف فيه منطق التعايش، وتفاقمت مظاهر العداوة والبغضاء والتفرّق، تبرز قيمةُ الوقوف مع البشرية بوصفها ضرورةً أخلاقية، ورسالةً دينيةً وحضارية، لا ترفًا فكريًا، ولا شعارًا عابرًا. إن الإنسانية اليوم أحوجُ ما تكون إلى أصواتٍ حكيمةٍ تُعيد التذكير بالمشترك الإنساني، وتؤكّد أن كرامة الإنسان مصونةٌ لكونه إنسانًا، قبل أيّ انتماءٍ آخر.
وانطلاقًا من هذا الوعي العميق، يحمل فضيلةُ الشيخ أبي بكر أحمد، مفتي الديار الهندية—حفظه الله—هذه الرسالةَ السامية تحت عنوان «الوقوف مع البشرية»، من خلال المسيرة الثالثة التي تُنظَّم في ولاية كيرلا، تحت إشراف جمعية علماء أهل السنة، وذلك بمناسبة مؤتمر المئوية للجمعية. وهي مسيرةٌ تحمل أبعادًا علميةً، ودعويةً، وإنسانيةً، وتهدف إلى ترسيخ ثقافة التعايش والسِّلم المجتمعي، وجذب القلوب والعقول في كيرلا خاصة، وفي الهند عمومًا.
وتكتسب هذه المبادرة أهميةً بالغة؛ إذ تُعَدّ الهندُ أكبرَ بلدٍ ديمقراطي في العالم، وبلدًا غنيًا بتعدديته الدينية والثقافية. وقد أشارت المصادر التاريخية إلى مكانة الهند في التاريخ الإنساني، وتناقلت بعض الروايات القديمة أن نبيَّ الله آدم عليه السلام هبط إلى أرض الهند القديمة، بما يعزّز رمزيتها في الذاكرة البشرية. وفي ظل ما يشهده العالم من أزماتٍ أخلاقية، وانفجاراتٍ في النزعات اللاإنسانية، وتنامٍ للكراهية والصراعات، تأتي هذه المسيرة استجابةً واعيةً لآلام الإنسان المعاصر، ورسالةَ أملٍ تُذكّر بأن الدين الحق إنما جاء رحمةً للعالمين.
ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى الإنساني العظيم، حيث قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70).
وهو تكريمٌ شاملٌ لكل إنسان، بغضّ النظر عن دينه، أو لونه، أو عِرقه.
وقال سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
فالتعارف مقصدٌ إلهيٌّ، لا التناحر، ولا الإقصاء.
وقال عزّ وجلّ:
﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32).
وفي هذه الآية تأكيدٌ على أن حفظَ النفس البشرية أصلٌ عظيمٌ من أصول الشرائع السماوية.
كما جاءت السنّة النبوية الشريفة مصرّحةً بمعاني الرحمة والإنسانية، فقال رسول الله ﷺ:
«الخَلْقُ عيالُ الله، فأحبُّ الخلق إلى الله أنفعُهم لعياله».
وهي دعوةٌ صريحةٌ لخدمة الإنسان أيًّا كان.
وقال ﷺ:
«ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء».
فالرحمة قاعدةُ التعامل الإنساني السليم.
وقال ﷺ:
«لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه».
وهو مبدأٌ أخلاقيٌّ شاملٌ، يتّسع لكل بني الإنسان.
إن الوقوف مع البشرية ليس خروجًا عن ثوابت الدين، بل هو تجسيدٌ صادقٌ لروحه ومقاصده، وإحياءٌ لرسالة الإسلام في الرحمة، والعدل، وصيانة الكرامة الإنسانية. ومن هنا، فإن مسيرة فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد تمثّل نداءً عالميًا للتعايش، وتجديدًا للعهد مع القيم التي بها تُبنى الأوطان، وتُصان الأديان، ويُحفَظ الإنسان.
وهي رسالةٌ تُعلن بوضوحٍ أن مواجهة التعصّب لا تكون بتعصّبٍ مضاد، بل بحكمةٍ، ورحمةٍ، ووقوفٍ صادقٍ مع الإنسان حيثما كان.
