رقصة اللبلاب- الحلقة الثانية

وكان "شوكت" وهو اسم تركي أطلقه والده عليه ؛ تيمنا وحبا في احد الباشاوات الإقطاعيين من أصحاب العزب المجاورة لقريته .. يراقب خطوات شقيقه الموهوب عن كثب ؛ وكان سعيدا للغاية حين عرض عليه أن يأتى بعائلته الصغيرة ؛ ليعيشوا مع العم أياما في القاهرة ؛ يحضرون خلالها عرض مسرحيته الناجحة ؛ويشاركونه فرحته بالحفاوة النقدية والجماهيرية بالعرض الجميل.
وبالفعل حصل ..شوكت .. علي أجازة لمدة أسبوع من عمله في المدرسة، واصطحب عائلته، وسافر إلى القاهرة ؛واتجه إلى الشقة التي يعيش فيها شقيقه الأعزب بأحد الشوارع الجانبية في منطقة الهرم التي لم تكن قد تحولت بعد إلى ما يطلق عليه الآن الصين الشعبية من كثرة عدد سكانها..ولم يضع الشقيق الأصغر وقتا حيث كان يصطحب اخيه وعائلته معه في كل مكان ؛وكان يذهب بهم حتى إلى الخمارات الرخيصة التي تعود علي احتساء الخمور فيها في منطقة وسط البلد ...وأصبح الكأس هو رفيق عمره ؛وصديقه الذي لا يفارقه ليلا أو نهارا ..
وحين حاول احد المخرجين الذين عرفهم عليه أخوه ؛معاكسة زوجة "شوكت" واستجابت هي له تحت تأثير كأس الخمر التي اجبرها شقيق زوجها علي احتسائه .. وظلت تضحك وتتمايل بصوت مرتفع دون أن تعبأ بنظرات زوجها أو سخرية شقيقه ..أيقن شوكت بحس الفلاح أن مكانه ليس في القاهرة ؛ولن يكون..وانه لابد أن يعود إلى المدينة الصغيرة التي شعر فيها ببعض الاستقرار بعد طول انتقال ..وكانت الطفلة الصغيرة ترقب تصرفات أمها التي فقدت وقارها وحياءها تحت تأثير الخمر..وتراقب انفعالات أبيها الباهتة وتتذكر عمها الغائب دائما عن الوعي والغارق في السكر حتى أذنيه ..وتتذكر اليوم الذي دخل فيه البيت سكران طينة ..وحاول أن يضاجع أمها ..وهى ترقد بجانبها في السرير..بينما يرقد أبوها في حجرة أخرى مثل القتيل ، بعد أن ظل طوال النهار ينتقل بين الجرائد لعل أحدا من رؤساء تحريرها يوافق علي تعيينه كمراسل للجريدة في المحافظة التي يعيش ويعمل بها ؛ويدخل ولو من هذا الباب البسيط إلى عالم الكتابة الذي يعشقه.. وكانت له فيه محاولات هو الآخر في كتابة القصة والشعر..إلا أنها لم تكن ترق بالطبع إلى مستوى إبداع أخيه ؛الذي يعتبرونه واحدا من الموهوبين الحقيقيين في تاريخ الأدب العربي المعاصر رغم ندرة أعماله ، وموته في سن مبكرة للغاية، بسبب اصابته بتليف في الكبد ، نتيجة الخمور الرديئة التي كان يعب منها كما يعب البعير من الماء، وهو ما أدى الى اصابته بالتهاب الكبد الوبائي ، الذي لم يكن الطب قد توصل لاكتشافه بعد ، ومات به عدد من المشاهير والادباء والفنانين ومنهم العندليب الاسمر الراحل عبدالحليم حافظ والممثل والفنان الشامل العبقري الراحل أنور وجدي.
-5-
وابتلع شوكت خيبته في إخفاقه في إقناع اى رئيس تحرير بالعمل كمراسل لصحيفته وعاد إلى البلدة التي يعمل ويقيم بها ؛ليمارس الملل والفراغ والحقد علي أبيه الذي فضل عليه شقيقه الأصغر، وحكم عليه أن يعيش تابعا له؛وان يصبح مجرد صدى لاسمه ؛وان تنحصر كل مكانته في انه شقيق الكاتب والشاعر والفنان العبقري ؛وهو ما جعله يحاول من باب اصطناع الاستقلالية أن ينافس أخيه في مجال آخر، لم يرق أبدا له، وهو الفنان المزاجى الباحث عن الجمال والبعيد عن لعبة السياسة المباشرة ؛وان يتوجه إلى لعبه الأحزاب ؛ويحاول أن يكون قطبا حزبيا من خلال الانضمام الى الحزب اليساري الوليد، والذي تأسس بعد قرار الرئيس الراحل أنور السادات بتحويل المنابر الثلاثة التي اخترعها من داخل الاتحاد الاشتراكي، لإرضاء أمريكا واستكمال ديكور الديمقراطية إلى ثلاثة أحزاب ..وأصبح "شوكت" رئيسا لأمانه الحزب في المحافظة؛وتحول من مجرد مدرس أول للمواد الزخرفية إلى قطب يساري وكادر حزبي.
لكن يبدو أن ضعف شخصيته وعدم قدرته علي التعامل مع الصراعات الصغيرة بين التيارات المختلفة في الحزب ؛وثقافته المحدودة التي اعتمد فيها علي ترديد عبارات لا يفهم معظم مدلولاتها عن العدالة الاجتماعية والحتمية التاريخية والبروليتاريا، وغيرها من المصطلحات التي ملأ بها أخوه الأديب الفنان رأسه ؛وحاول أن يغرسها فيه ؛من خلال تل من الكتب أهداها إليه ليقرأها ويستوعبها ؛ولكنه بدلا من ذلك ؛كان يضع بعض الخطوط علي الجمل التي تعجبه، ويقوم بحفظها عن ظهر قلب ..حتى يظهر لغرمائه ومنافسيه علي رئاسة أمانة الحزب في المحافظة.. أنه شيوعي (قراري) وانه معجون في الشيوعية رغم انه لا يفقه شيئا عن هذا المذهب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ..وسلوكياته جميعها تنم عن شخص انتهازي ؛أعلن إلحاده للمحيطين به كنوع من التميز والاختلاف عن الآخرين ؛وكنوع من الانتقام من السلطة الأبوية ؛وتفريغ كراهيته الشديدة لأبيه، من خلال التمرد علي الذات الإلهية .
وقد تشربت منه ابنته الصغيرة بعض هذه العبارت الهازئة بالدين ؛وكانت تسمعة يسب الله (عمال علي بطال ) وكأنه يريد أن يثبت للجميع انه كافر ؛ لكنها لم تفهم حتى سنوات قريبة ..لماذا كان يذهب أحيانا لصلاة الجمعة في المسجد القريب من المنزل، أو لماذا كان حريصا علي صيام رمضان ،وان كانت قد سمعته يجيب عن هذا السؤال الذي سأله له احد تلاميذه ممن كان يستقطبهم لزيارته في منزله ليحدثهم عن جنة الشيوعية . حين قال له الولد بس أنت بتصوم رمضان ليه يا أستاذ ..ولم يتردد (شوكت ) كثيرا في الإجابة على ذلك بأنه نوع من المشاركة الوجدانية والاجتماعية للناس ؛حتى لا يصبح منبوذا بينهم، إذا جاهر بالإفطار .
وكان أن تغير (تكتيك) الحزب ؛بعد أن لاحظت قياداته انصراف الناس عنه بسبب الانطباع السائد لدى كثير من الناس عن أنه حزب الكفار والفاسقين والملاحدة..وأصبحوا يستعينون ببعض مشايخ الأزهر المعممين من الناقمين علي الأزهر ،ومعتنقى الأفكار التنويرية لتغيير صورة الحزب عند الشعب ؛ودفع تهمة الإلحاد عنه وعنهم ..وحاول شوكت هو الآخر أن يغير من بعض سلوكياته الصادمة لأقاربه وزملائه وجيرانه، خاصة بعد أن فشل في كل الانتخابات التي رشحه الحزب ليمثله فيها، سواء للمجالس المحلية أو لمجلس الشعب ؛وكان يخرج في كل مرة من المولد بلا حمص ولا يزيد عدد الأصوات التي يحصل عليها عن مئات بل وأحيانا عشرات الأصوات الانتخابية، وكلها لكوادر وأعضاء الحزب من الحانقين والناقمين علي الحياة ؛والمثقفين اليساريين ؛وبعض العمال الشيوعيين في مصانع الغزل والطلبة اليساريين في المدارس والجامعات.
-6-
وعاشت "عفاف" سنوات طفولتها ومراهقتها كأي فتاة عادية من أقاليم مصر المحروسة؛وتقضي فترة الصيف كلها مع والدتها التي اسند إليها الأب أمانة المرأة في فرع الحزب بالمحافظة ؛واشتركت الفتاة هي الأخرى في فريق الطلائع بالحزب.. وكانت الأمانة العانة للحزب في القاهرة تنظم لهم رحلات إلى المصايف الفقيرة في جمصة ورأس البر والإسكندرية لتزيد التعارف والتآلف فيما بينهم ؛وتغرس بداخلهم قيم ومنهج مختلف للتفكير والسلوك عن المنهج السائد في المجتمع ..حيث لم يكن المشرفون علي تلك الرحلات يجدون اى غضاضة في أن يبيت الأولاد والبنات في خيام أو غرف فندقية متجاورة وفي نفس الدور ..وكانوا يغضون الطرف عما يحدث بينهم من علاقات عاطفية وسلوكيات مراهقة ؛بشرط ألا تتطور الى مالا يحمد عقباه ؛وألا تصل إلى درجة ممارسة الجنس الكامل ..وتعودت عفاف علي منظر جلوس والدتها بين الرجال ؛وسفرها في بعض الأحيان في مهام حزبية بدون والدها ؛وبياتها أيام وليال خارج المنزل ؛وخاصة في أيام التحضير للانتخابات ؛والمؤتمرات الدورية العامة التي يعقدها الحزب في مقره بالقاهرة ..وكان والدها يلقنها أن البنت مثلها تماما مثل الولد، وان لها الحرية الكاملة في أن تفعل ما تشاء بشرط أن تحافظ علي عذريتها لان هذه هي تقاليد المجتمع البالية وحكم الدين الذي لا يستطيعون الفكاك منه، حتى لا يصبحوا مفضوحين أو منبوذين في المجتمع.
وقد علمتها هذه النصائح من البداية أن هناك عالمين لابد أن توزان بينهما ..عالم ظاهر ووجه برئ وطاهر تتعامل به مع الناس وأمامهم ..وعالم آخر ملئ بالإثارة والأسرار .. تستطيع إن تفعل فيه كل شيء واى شيء بلا حدود ..وبشرط ألا تنكشف؛وكان الكذب هو سلاحها الوحيد والمفيد في الموازنة بين هذين العالمين ..وتعملت في سن مبكرة جدا أن تكذب كما تتنفس وان تنظر في عيني من تحدثه ،وهى تكذب وتطيل التحديق فيهما، حتى تجبره على أن يضطر هو في النهاية أن يحول عينيه عنها ؛وكأنه هو الكاذب أو المذنب وليست هي ..وكانت الوحيدة التي تستطيع أن تكشف كذبها هي أمها ..وأهم علاماتها في ذلك هي حركة عينيها، ورمشيها اللذان يرفان بسرعة شديدة حين تكذب .