قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

من الزنزانة


هنا في عتمة الظل الأحادي المكتحل بالأضبة ، في أحشاء الهواء المختنق بأنفاس هوى الوطن ، وفوق أرض الأرض المضاجعة للصخر والمتوسدة بالحجارة، وعلي جدران الكهولة المزركشة بالصبا بنافذة أمل حديدية صغيرة، وعلي الأسلاك المتراقصة في أرجاء الأجساد كرقصة المذبوح من الألم .هنا دولتنا.
هنا نحن نسكن أعشاش الدبابير المحلقة فوق الأكتاف السوداء، نسكن تحت أقدام الطواغيت ، تحت السطو والقمع والإرهاب والإجرام والقتل، والحاكم في أعمارنا أشعث أغبر سادي مخبول ، يفصل عن جلودنا العظام ، يتجرع دماء ضحاياه ويدهس بغّلٍ الضلوع ، يحنط الرؤوس علي أجذاع النخيل، ويضع الأساور في عنق الحرية ، ويسلخ الحُلم علي أرصفة العنابر. هنا يا أماه أبكى ، أصرخ ، أتألم ، أهتف ، ألعن ، أُعذب ، أذل ، أرسخ ، أبيع ، أصمد ، أخِر ، أسأم ، أهزم ، أصدم ، أستغيث ، أموت يا أماه . هنا تغير كل شيء ملامحى ، ثيابي ، طموحى ، آمالي ، رائحتى ، رائحتك ورائحة الوطن ، أصبحت وحيداً أقتسم الأوجاع مع الوهم فلا مؤنس ولا أنيس ، تغيرت كثيراً .
وإنى جائع يا أماه فهنا يخلطون الطحين بالذل ويخمرونه بحليب الأبكار ثم يوقدون بإبراهيم النار ثم لا ننال إلا الملمس ، رغيف خبزٍ واحدٍ لثلاثة وعشرين رجلاً، البطون خاوية وإننا لفقراء بطوننا تحترق والقيامة لم توقد بعد. يا أماه قولي لـ(الله) لعله يسمع منكِ ، توسلي له أن يغفر ذنوبنا ، أن يضع المخدر في كؤوس السجود فالألم امتد لآخر الأرض وأصبح لا يطاق ، والجراح كسولة لا تندمل فيشطرون جُرح البدن ويطهون لحمنا.
هنا يا أماه وطنُ صغير مات صاحبه ثم جاء صاحبه فمات ثم جاء صاحبه فمات ثم جاء الموت علي أعتابه وفي عينيه الأعاصير يتوسل رحمة السجان ثم انتحر. هنا قابيل قتل آدم وعكف موسي لإبليس وأكل الذئب يوسف والأئمة يضاجعون الفواحش قبل العبادة ومسابح الحقد تبقر أحرف الشاعر وتلتهم مزاميز العازفين .
يا أماه مات محمد ولم نجد ماء ليغتسل سوى البكاء ، كنا نغترف من آبار الأحزان والخوف التى لا تجف ، صنعنا من أطرافنا له كفنا، وأنتظرنا حتى ثمل الجلاد من دمائه وأقمنا جنازته ، ودعته بآسي الجدران والحجارة وعصا وسكين القاتل وأنيابه، وقرأ عليه الآيات خطيب الروح مزهق الروح . وكانت زوجته تئن في الوطن المجاور، الوطن الذي يسكنه الصبايا ، أمواج صوتهن مجدوله علي حوائط الذل ، يغزلن أثوابهن بأشلاء بعضهن.
عار يا أماه فهذا فوق أي شيء، فوق كل شيء، لا يوصفه شيء ، هنا لم نر بشراً قط فأخبرينى هل ظل في الخارج إنسان.