يبدو أننا في العالم العربي نجحنا أخيراً في تحقيق المعادلة المستحيلة: أن نكون أكثر شعوب الأرض تواصلاً... وأقلها إنتاجاً! نحن جيل يملك أحدث الهواتف في جيبه، وأقدم طرق التفكير في رأسه!جيل يغيّر خلفية هاتفه كل يوم، لكنه لم يغيّر خلفية وعيه منذ عقود.
نعيش في زمن التكنولوجيا الفائقة، نحمل أجهزة ذكية تفهمنا أكثر مما نفهم نحن أنفسنا، لكننا ما زلنا نستخدمها في أبسط ما يمكن: التسلية، ومتابعة الترند، وتبادل الصور والضحكات.
لقد أصبحت التكنولوجيا عندنا أشبه بقطعة أثاث حديثة في بيت قديم، جميلة المظهر، لكنها بلا وظيفة حقيقية.
بدلاً من أن نستغلها في الإنتاج والإبداع، جعلناها وسيلة للهروب من العمل والواقع، حتى صار “الاتصال الدائم” هو إنجازنا الوحيد في عالم لا يعترف إلا بمن يُنتج لا بمن يُحمّل التطبيقات.
نحن شعوب لا تنام، دائمة الإتصال بالإنترنت، لا نقطع صلتنها بالشبكات لحظة واحدة، حتى أثناء النوم تجد الهاتف على الوسادة كأنه رفيق العمر، أو ربما وليّ رقمي يحمينا من الكوابيس التي لا علاقة لها بالحياة الواقعية أصلاً.
لقد تحولت التكنولوجيا عندنا من وسيلة إلى غاية، ومن أداة للتقدم إلى تسلية جماعية.
بدل من أن نبني بها مستقبلنا، بنينا بها جدراناً من الصور والفيديوهات والـ“ستوريات.”
صرنا نعيش في عالم إفتراضي نحكي فيه عن أحلامنا الكبيرة، ونصور وجباتنا الصغيرة، ونتبادل النكات بدلاً من تبادل الأفكار.
التكنولوجيا التي إخترعها الغرب لتسريع الإنتاج، حولناها نحن إلى آلة لقتل الوقت.
في حين يستخدمها الآخرون لتصميم المدن الذكية، نستخدمها نحن لتصميم “فلتر” جديد يجعل وجوهنا أكثر إشراقاً من أفكارنا.
وفي الوقت الذي تبني فيه الشركات العالمية تطبيقات تحل مشكلات الإنسان، نبني نحن تطبيقات تخبرنا من زار صفحتنا، ومن تجاهلنا، ومن حذفنا من قائمة الأصدقاء
أما في مكاتب العمل، فالتكنولوجيا عندنا لا تُستخدم للإبداع أو رفع الكفاءة، بل لأداء مهمة مقدسة: تثبيت الخلفية الإفتراضية أثناء إجتماع “زووم” حتى لا يظهر المطبخ وراءنا
ورغم أن الموظف العربي يملك أحدث الحواسيب والهواتف الذكية، إلا أن إنتاجه ما زال يعتمد على "الكوبي – بيست"، وبرامجه المفضلة هي “واتساب” و“تيك توك” و“انستغرام”، لا “إكسل” ولا “بايثون” ولا “برمجيات تحليل البيانات.”
أما في مجال المحتوى الرقمي العربي، فحدث ولا حرج.
لدينا ملايين الساعات من الفيديوهات التي تشرح كيف تصنع القهوة بسبع طرق، أو كيف ترقص “الترند” الأخير، ولكن إذا بحثت عن محاضرة تشرح الذكاء الإصطناعي بالعربية فستجدها وحيدة، متربعة في زاوية مظلمة من الإنترنت، تتفرج بحزن على فيديوهات القطط التي تجاوزت المليون مشاهدة.
نحن نستهلك كل ما ينتجه غيرنا بشهية مفتوحة، من الأجهزة إلى التطبيقات إلى الأفكار. وعندما نحاول “الإنتاج”، فإننا نبدأ بتقليد ما صنعه الغرب قبل عدة سنوات، ونحتفل به كما لو كان إختراع القرن.
بل إننا أحياناً نُترجم تطبيقاً أجنبياً ونكتفي بتغيير الإسم إلى “نسخة عربية”، وكأن اللغة وحدها كفيلة بتحويل الإستهلاك إلى إبداع!
التكنولوجيا في العالم الحقيقي هي وسيلة للتقدم، لكنها في عالمنا العربي تحولت إلى وسيلة للهروب من الواقع.
نهرب إلى شاشاتنا لنعيش حياة أكثر جمالاً، نلتقط صوراً لأنفسنا في المقاهي ونكتب تحتها “العمل الجاد مستمر”، رغم أن أقصى ما نفعله هو البحث عن “واي فاي مجاني”!
ورغم كل هذا، لا يمكن إنكار أننا نملك طاقات هائلة وقدرات مذهلة لو وجّهت في الإتجاه الصحيح.
فالشاب الذي يستطيع إدارة خمس صفحات على “فيسبوك” وإثنتين على “إنستغرام” ومجموعة على “واتساب” في نفس الوقت ، يمكنه بسهولة إدارة مشروع رقمي ناجح لو حصل على تدريب حقيقي ودافع جاد.
لكننا – للأسف – ما زلنا نفضل الطريق الأسهل: طريق اللايكات والتعليقات، لا طريق الأفكار والإنجازات.
في النهاية، يبدو أن التكنولوجيا عندنا أصبحت مثل المرآه التي نحب أن ننظر فيها طويلاً، لكننا لا نجرؤ أن نرى ما خلفها.
فما زلنا نعيش في عصر “التحول الرقمي” بالاسم فقط، بينما التحول الحقيقي المطلوب هو تحول في الوعي…
وعيٌ يدرك أن التكنولوجيا ليست وسيلة للعرض، بل وسيلة للعبور.