في فضاءات الثقافة والإبداع تبرز الشيخة بدور القاسمي كشخصية تجمع بين الشغف بالكتب والبحث التاريخي العميق. ففي كتاباتها تجدها تحمل رؤى مختلفة تعيد قراءة التاريخ من منظور عميق تحترم فيه النساء وتعيد إحياء الدور الذي لعبنه في المجتمعات العربية المبكرة.
في كتابها الجديد الذي حمل عنوان " أخبروهم أنها هنا.. بحثاً عن ملكة مليحة" أطلقت الشيخة بدور مسارا مزدوجا في الكتابة ..أحدهما مسار ذاتي تأملي.. والآخر مسار بحثي تاريخي.
كان لي شرف حضور حفل توقيع الكتاب وبابتسامة الترحاب استقبلتنا المؤلفة وهي من هي.. فهي كاتبة وناشرة وباحثة.. أرى في نهجها حكمة ورؤية وشغف والدها بالقراءة .. سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة. كانت طوابير من القراء والباحثين والضيوف أمام قاعة التوقيع.. المشهد كان مختلفا فالجميع يسعى للحصول على نسخة من الكتاب – وهي ليست مجانية بالمناسبة- الكل يطلب التقاط صورة تذكارية بهذه المناسبة. فالكاتبة محبوبة من الجميع وتتمتع بقدر كبير من التقدير اللا محدود من أهل الشارقة وضيوف المعرض.
مشاهد حفل التوقيع لم تحل بيني وبين شغفي بالحصول على نسخة وبدء قراءة الكتاب.. لكي أفهم من هي ملكة مليحة التي تبحث عنها الكاتبة؟
في الجزء الأول من الكتاب، تنفذ الشيخة بدور إلى أعماق إحساسها بالانتماء والهوية وبالحق في أن تسجل جذورها في الأرض التي تنتمي إليها. ففي تقديمها للكتاب تقول: «هذا الكتاب ليس مجرد قصة. إنه تعويذة… مساءلة روحي وهي تتأمل في جذورها المغروسة بعمق في تربة أسلافها…» .
في الجزء الثاني تأخذنا إلى بحث أثري ثقافي في مملكة مليحة، استنادا إلى اكتشافات مختلفة أبرزها عملات تدل على أن النساء كن في طليعة القيادة في قلب الجزيرة العربية وأن بعضهن كتبن أسماءهن على نقود وأثرن تأثيرا مهما في التاريخ. ويسلط الكتاب الضوء على عدد من الملكات العربيات اللاتي عرفهن التاريخ، من بينهن زنوبيا وبلقيس و"ملكات القمر" والملكة شمس، وييختتم بخريطة مقترحة توزع ملكات العرب والممالك التي حكمنها عبر مناطق الجزيرة العربية، في عمل يجمع بين الدقة البحثية، والرؤية الثقافية التي تسعى إلى إعادة قراءة التاريخ العربي بمنظور وأسلوب جديدين.
بهذا المزج بين الذات والبحث في الكتابة.. وبين الحكمة الشخصية والتوثيق العلمي.. تبني الشيخة بدور نصا مختلفا في مكونه وأسلوبه.. نصا يحتفي بما كان مهملًا من سير نسائية عربية.. ويعيد بلورة التاريخ كمشهد مرئي بالحكاية .. ليس فقط من رجال وممالك في الجزيرة العربية بل من نساء حاكمات ومؤسسات ورائدات.
من هذه الزاوية.. يمكن القول إن ملكة مليحة ليست شخصاً وحيداً أو خرافة مروية بقدر ما هي تجسيد لزمن كان للنساء نصيب من الحكم أو على أقل تقدير كان لهن تأثير قوي في الحكم. وهو ما يدعونا إلى أن نعيد النظر في سردية التاريخ الرسمي.
وحسنا فعلت الكاتبة عندما قادتنا في الكتاب عبر رحلة بين الذاكرة الشخصية والجماعية وبين البحث العلمي الذي يكشف عن الدور الذي أدته المرأة العربية في مراحل مبكرة من التاريخ. فمن خلال أدلة أثرية مختلفة مثل العملات والنقوش ما يؤكد أن التاريخ ليس دائمًا كما نرويه.. بل هناك مساحات تكشف عن حضور نسائي قوي في صناعة القرار والحكم في ممالك الجزيرة العربية القديمة.
ولا يفوتني الإشادة باستناد هذا العمل إلى مجموعة واسعة من المراجع والمصادر التي تجمع بين النصوص الأدبية والشعرية العربية القديمة مثل أشعار المتنبي وأبي نواس، إلى جانب مجموعة اقتباسات من الأدب العالمي لنخبة من الكتاب الكبار من أمثال لوركا وكامبل وآخرين فضلاً عن المراجع والمصادر الآثارية والدينية ومقولات من الموروث الصوفي، والتي ساهمت في إثراء محتوى الكتاب.
فشكرا لإمارة الشارقة التي قدمت إلى الثقافة العربية ابنتها البارة الشيخة بدور القاسمي.. وشكرا لسمو الشيخة بدور التي تثري دوما المكتبة العربية بمؤلفاتها ودعمها اللامحدود للثقافة العربية!