حاربوا داعش بالأزهر

فجأة تبدل كل شيء في المنطقة وخاصة بالنسبة لكيفية التعامل مع داعش فبعد أن كان التعامل معها لزمن طويل يتم بحنان ورأفة من الجانب الأميركي على الأقل، إذ به يتحول فجأة الى تعامل الأسد المفترس الذي يسعى لقضم رقبة الذئب الداعشي.
كل شيء تبدل فجأة، وظهر الأمر وكأن بركانا قد بعثت فيه الحياة بعد رقاد طويل. وفي البداية، بدا الأمر وكأن الرئيس أوباما يسعى لتحقيق انجاز واضح في عهده ضد التنظيم، قبل رحيله عن سدة الرئاسة.
تواجه داعش معارك متزامنة في أكثر من موقع، وفي آن واحد، مما يشكل بدون أدنى شك، ورقة ضغط كبيرة على التنظيم لم يواجه مثيلا لها منذ نشأته. كل ما في الأمر أن السؤال الذي سيظل قائما هو: هل ستنجح هذه الضغوط والمعارك المتزامنة في استئصال داعش أم ستؤدي فحسب الى تحجيمها... ربما لبعض الوقت.
يستبعد العديد من المراقبين والمحللين السياسيين والضالعين في الشأن العسكري، نجاح تلك الهجمات على الدولة في القضاء عليها أو استئصال وجودها، كما بستبعدون احتمال السيطرة على محافظة الرقة، وخصوصا مدينة الرقة، في وقت قريب أو نسبي.
خطورة داعش أنه يمارس في آن واحد نهجين في القتال: نهج المجابهة الكلاسيكية في المعارك العسكرية، ونهج حرب العصابات، فيلجأ لأسلوب الكر والفر بما ما يفرزه من انسحاب لكن مع العودة فجأة للهجوم.
اضافة الى استخدام المفخخات المتفجرة، هناك العديد من الأنفاق في المنطقة، والتي شقتها أثناء تواجدها الطويل في المنطقة، مما يساعدها على استخدامها في تنفيذ هجمات مضادة آتية من خلف القوات المهاجمة. فهذه الأنفاق العديدة، سوف تساعده على استخدام عنصر المباغتة في هجماته الشرسة.
ومن تكتيكات داعش المعروفة، تنفيذ هجمات مفاجئة في مواقع لم تكن متوقعة. وهناك أيضا سلاح التنظيم الأهم، وهو سلاح العمليات الانتحارية المعززة بتواجد العديد من الجهاديين المتحمسين لفكرة الاستشهاد باعتبارها طريق سريع الى الجنة، كما يقال لهم. وسلاح الانتحاريين سلاح ينفرد به تنظيم داعش ولا تملك مثيلا له القوات السورية أو الروسية أو جيش سوريا الدمقراطي.
وهذا سلاح، أي سلاح الانتحاريين، غالبا ما يؤدي الى نجاح أحد الانتحاريين في التسلل الى الصفوف الخلفية للقوات المهاجمة، فيؤدي تفجير نفسه في الصفوف الخلفية وفي وسط تجمع للمقاتلين أو المؤازرين لهم، ملحقا ضربة موجعة ومعوقة لمخططاتهم.
واذا ما اضطر التنظيم للتراجع في بعض المواقع، بحيث كاد يبدو للعلن في حالة من الضعف والوهن والتقهقر قد يؤدي الى فرار بعض اعضائه خوفا من هزيمة، كما يؤدي الى تضاؤل عدد المنتسبين الجدد للتنظيم، فان التنظيم في حالات كهذه، من المتوقع أن يلجأ لأن يضرب في الصفوف الخلفية للدول المنضوية تحت جناح التحالف الدولي برعاية أميركية.... في صفوف الدول الأوروبية المؤازرة للتحالف، وربما أيضا في صفوف دول التحالف الروسي أو حتى الاسلامي، وذلك عبر عمليات انتحارية قد ينفذها في مواقع أوروبية أو غير أوروبية، ولكنها مواقع لم يقدر أصحابها احتمالات تعرضها للخطر، فلم يتخذوا نتيجة ذلك احتياطات أمنية كافية لتداركها.
تنظيم داعش، كما يرى بعض الدارسين والمتابعين لنشاطه قد حرص كما يبدو، على ايجاد خلايا نائمة لها في تلك الدول، تستخدم في حالات الضرورة، وخصوصا عندما ترغب في التأكيد للملأ بعد ضربات موجعة وجهت اليها، بأنها لم تزل قوية وقادرة. ويرجح أن سلاح الخلايا النائمة في الدول الأوروبية، قد تعزز بأعداد ملموسة مؤخرا نتيجة تدفق المهاجرين السوريين وغير السوريين على تركيا وعلى دول أوروبا، مما يرجح احتمال تسلل بعض الانتحاريين بينهم تحت ستار اللجوء الانساني، لتعزيز سلاح الخلايا النائمة في تلك الدول.
فالضربات في الصفوف الخلفية للدول المهاجمة تحت أي ستار أو تجمع كان، لا يشكل مجرد ضربات موجعة لعدو، بل هو تذكير بالنهج الاستراتيجي الذي اعتمده التنظيم كتكتيك، بل كاستراتيجية للفت النظر اليه، وللانتشار بسرعة متسترا بعامل تخويف الآخرين منه... والمقصود به نهج الأعمال الوحشية التي تعزز الخوف من التنظيم، والذي من أجل بثه في نفوس الآخرين، لجأت الى قتل الأسرى، وقطع الرؤوس أمام العلن، وسبي النساء واغتصابهن. فالضربات الانتحارية في الدول الأخرى، ستشكل نقلا نسبيا ونوعيا لخط القتال من سوريا والعراق وليبيا، الى خطوط أخرى موجعة واقعة في دول داخلة في التحالفات التي تقاتل الدولة الاسلامية.
وهكذا يبدو أن المعركة طويلة، رغم التزامن في فتح عدة جبهات، وقد تكون أطول مما يتوقع الكثيرون. واذا نجحت تلك الحملة، فقد تنجح فحسب في اضعاف داعش، لا في استئصالها. ولعل الولايات المتحدة قد تعلمت درسا من طريقة تعاملها مع تنظيم القاعدة في أفغانستان، وهو التنظيم الأم الذي نمت في دفء حضنه، كل الحركات الارهابية السائدة الآن في هذه المنطقة وفي أفريقيا، وكذلك في مواقع أخرى من العالم كأوروبا والمناطق الشيشانية والاسلامية في الاتحاد الروسي.
فالولايات المتحدة رغم حرب خاضتها على مدى أربعة عشر عاما في أفغانستان ضد القاعدة وضد مناصريها من طالبان الذين يقدمون الحماية لتنظيم القاعدة ويضمونها تحت أجنحتهم، لم تفلح في استئصال القاعدة أو انهاء وجودها أو نشاطها، الأمر الذي تؤكده تفجيرات وهجمات تنفذ بين الفترة والأخرى في كل من الصومال واليمن وأحيانا في مناطق قريبة من المغرب العربي، كما في العملية الارهابية التي نفذها قبل شهرين أو أكثر، تنظيم القاعدة في المغرب العربي، في دولة بوكينا فاسو.
وهذا الفشل في استئصال القاعدة المتواجدة قيادتها في داخل أفغانستان وفي مناطق باكستانية مجاورة للحدود الأفغانية، يرجح أن الاكتفاء باستخدام القوة المسلحة وحدها لمكافحة تنظيمات جهادية ذات توجهات سياسية نابعة من أصول دينية متشددة كهذه...هو خطوة غير كافية، خصوصا وأن هذه التنظيمات تلجأ للتمدد في مواقع أخرى غير المواقع المتعرضة للهجوم، فتشكل تنظيمات فرعية لها في دول أخرى كما فعلت القاعدة بايجادها تنظيمات لها في عدة بلدان أخرى. ويرجح أن الدولة الاسلامية قد نحت نحو القاعدة في تشكيل فروع كهذه لها وخصوصا بعد مبايعتها من تنظيمات عدة متواجدة خارج سوريا والعراق كبوكو حرام، وأهل بيت المقدس وغيرهما كثر.
اذن أسلحة الحرب التقليدية المستخدمة حاليا في مقاتلة القاعدة أو داعش ليست وحدها هي السلاح الفعلي المطلوب أو المنتج. فهذه التوجهات المستندة الى فكر اسلامي متشدد، لا يمكن أن تعالج الا بفكر مقابل قد يستطيع بعد عدة عقود قد تكون طويلة الوقوف في وجه هذا الفكر الجهادي المتشدد والمضلل بمفاهيم وتفسيرات خاطئة.
والفكر الجديد القديم المطلوب، هو من ناحية، قيام الأزهر الشريف بطرح شروحاته المتسمة بالاعتدال، والداعية للتسامح الديني وعدم انكار الآخر.
ومن ناحية أخرى، العودة الى رفع شأن الفكر العروبي والقومي الذي كاد يتلاشي في خضم طروحات الجهاديين، اضافة الى توجهات نحو العلمانية ونحو بعض المنحى اليساري في التفكير، ولو المعتدل منه المتناسب مع وضع شعبنا وتقاليدنا. فهذا هو الرد الموضوعي والفاعل لاحتواء الأفكار المتطرفة والمتشددة التي طرحها بعض الفقهاء المتشددين .
وهكذا يبدو لي، وربما لآخرين، أن هذا التوجه في التشدد الديني الى حد الافراط في التطرف، قد يحجمه أو يؤخره قوة استخدام السلاح، لكنه لن يستأصله. فلا شيء يستأصل فكرا كهذا الا فكرا مقابلا واضحا ومقنعا يدغدغ المشاعر القومية الوطنية، كما دغدغت أفكار بن تيمية ومن والاه، المشاعر والمعتقدات الدينية التي نحترمها كثيرا عندما تكون في اطارها الصحيح كدين اسلامي معتدل ومتسامح كما أراد له الرسول (ص) أن يكون.
ولكن الفكر الأكثر استدعاء للاهتمام به على عجل، هو مفهوم الاستشهاد الذي تغسل به أدمغة المنتحرين المزنرين بكمية قاتلة من المتفجرات. فالمفهوم الذي يقدم لهؤلاء، هو أن مصيرهم الى الجنة فور تفجير أنفسهم في وسط مجموعة، غالبا ما لا تكون من المقاتلين، بل من المدنيين الأبرياء، وهذه نشهدها كثيرا في العراق، وأحيانا في مدينة حماة السورية، بل ونفذت مؤخرا في اللاذقية. فالمطلوب من الأزهر الشريف، أن يبين لهؤلاء، أن المنتحر يذهب الى الجنة الموعودة اذا كان يفجر نفسه في وسط عدو محتل لبلاده، ويغتصب حقوق شعب ما كالشعب الفلسطيني مثلا.
أما من يفجر نفسه في أيامنا هذه في وسط مدنيين أبرياء ومن أبناء شعبه، من بينهم النساء والشيوخ والأطفال، فهذا يصعب كثيرا القول بأنه سوف يذهب الى الجنة ليلتقي بالله تعالى، عندما يقتل أطفالا هم أحباب الله.
وهناك حالة أكثر وضوحا، وهي من يفجر نفسه داخل جامع أو حسينية أثناء قيام البعض باداء فروض الصلاة والتعبد لله. وهذه قد حدثت كثيرا في الماضي القريب والبعيد. فكيف يمكن لهذا المنتحر المضلل أن يعتقد أنه حقا في طريقه الى الجنة، مع أنه قتل للتو أبرياء، رغم كونهم من طائفة أخرى، أثناء أدائهم لصلواتهم متعبدين لله تعالى. فهل من الممكن أن يستقبل الله القدير قاتلا اغتال للتو أناس كانوا يتعبدون له,,,لله تعالى؟
على الاخوة في الأزهر الشريف، أن يبادروا فورا لشرح ذلك لهؤلاء الأبرياء... وأن يشرحوه لهم مرارا وتكرارا لعلهم يقنعون بعضا منهم بالتراجع عن هذا المفهوم الخاطىء...بل المفهوم القاتل.