طعم الأيام

هل شمَمْت مرة عطر الفل والياسمين وجالَ في خاطرك ذكرى شارعك القديم أو سمعت صوت جرس المدرسة فتذكرت أيام كنت تلميذًا خلف أسوارها ، هل ذقت طعامًا مفضلًا لديك فانطبعت في ذهنك ذكرى أيامًا خلت قضيتها في معية جدتك تأكل على مائدتها ما تشتهيه؟
هل سِرت يومًا في طريق، فتذكرت تلك الأيام التي كنت تقطعُهُ مع أصدقائك وقت أن كنتم صغارًا فترقى ضحكاتكم أعنان السماء؟
كم مرة سمعت أغنية محببة إليك فاشتقت لأيامٍ كنت تلهث فيها وراء كل جديد في عالم الموسيقى والغناء تنتقي ما يروق لك لتشتريه أو تنسخه؟
إن كنت من هؤلاء الناس فأنت لا شك من المحظوظين، لأن لديك ذاكرة حية قادرة على أن تمنحك حياة أخرى فوق تلك التي تحياها، وأنت لاشك لديك حاسة تذوق خاصة تذوق بها طعم الايام.
في رأيي أنه لا يوجد ما يسمى (بالزمن الجميل)، الزمن الجميل هو كل وقت تستطيع أنت أن تجعله جميلًا فكل شيء حولك له مذاقه الخاص، ما تختاره بمحض إرادتك أو ما يُفرض عليك، حتى لحظات الصمت، وضجيج الكلام، حتى تلك الأشياء العبثية التي تَصدُر عنك دون أن تهتم بها أو تنتبه إليها، قد يصبح لها مذاق تتذكره وتفتقده، أنت بطل الذكريات الجميلة لأنك أنت الذي تصنعها وتشعر بها.
يقول الإمام حسن البصري: - " يا ابن آدم إنما أنت أيام، إذا ذهب يومك ذهب بعضك "، فهل لنا إذًا أن نقف قليلًا أمام هذا المعنى لنتأمل، أن أعمارنا ما هي إلا محصلة لأيام مضت، وأن اليوم الذي يمضي بلا ذكرى هو يوم بلا طعم وبلا رائحة وبلا مذاق. ولكن كيف هذا؟!
يقول الاديب المصري الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي " إن السبب في شقاء الإنسان أنه دائمًا ما يزهد في سعادة يومه، ويلهو عنها بما يتطلع إليه في سعادة غده، حتى إذا جاء غده، أدرك أن أمسه كان خيرًا من يومه، فهو لا ينفك شقيًا في حاضره وماضيه".
هي دعوى إذًا لأن تُحَلي أيامك بالسعادة والرضا، وأن تستشعر طعم صغار الأشياء قبل كبارها وألا تزهد أبدًا في متعة أتتك على غير ترتيب منك ، حتى لو شربة ماء بارد في يوم حار، مذاق حلو ، رائحة عطر ، صوت موسيقى، استرخاء بعد عناء ، نظرة رضا، كلمة ثناء ، رؤية صديق ، لقاء محب .، لو عدنا نفكر في يوم مضى سنجد أنه حظى بفرص عظيمة لأن يكون الأفضل ، ولكننا لم نشعربها لأننا زهدنا فيها وقت حدوثها ، حتى تلك المواقف الأليمة واللحظات العثرة التي نمر بها في حياتنا ، هي الأخرى لا تخلو من عطف قريب ، أو مواساة صديق أو دفء صُحبة اجتمعت لتؤنسك وتُسَري عنك .فكيف لها إذًا أن تمُر بلا أثر ، وكيف لها أن تمضي عبثًا؟!
إن كنت ممن لديهم هواية الاحتفاظ بأشيائهم القديمة، عد إليها مرة ، وتأملها قليلًا ، ستجدها جزءا منك ، تُعَبِر عنك، هي اختياراتك الخاصة، ألعاب الطفولة ، شرائط الكاسيت أو الأسطوانات ، صور رحلاتك ، الملاحظات التي كنت تسجلها في كتبك أو وقت أسفارك ، نوع عطرك المفضل، أدواتك الشخصية ، قم بزيارة الأماكن التي كنت تفضل الذهاب إليها وقت الضيق أو وقت الفرح أو مع أصدقائك أو عائلتك، أو حين ترغب في الاختلاء بنفسك، كلها انعكاسات لرغباتك ولشخصيتك، كلها خط طويل ممتد منذ الطفولة الى يومك الذي تعيش فيه، هذا الخط يرسمك أنت ، ربما دون أن تقصد.
إن سلة الذكريات التي تحملها معك منذ أن تفتح وعيك على الحياة وحتى نهاية العمر هي زادك الذي تأنس به في كل حين، هي المذاق الحلو الذي بدونه لأصبحت الحياة مريرة، لا طعم لها. هي جدران البيوت ولوحات الجدار وشرفات المنازل وأواني الطعام وأرصفة الطريق، ورائحة الزهور، هي لعب الطفولة وأحلام الصِبا وشغف المراهقة، هي الماضي المُسال المسكوب بين يديك في حاضرك، هذا المخزون الثري الذي تحمله في سلتك هو عمرك الذي يسير معك ولا يمكنه أن يشغل حيزًا من ذاكرتك إلا إذا كان ذا مذاق. فلنجعل لأيامنا مذاقًا، لتبقى لذة مذاقها في صندوق الذكريات. ولنعطي لأنفسنا الفرصة لنتذوق طعم اللحظات العابرة ، كي لا نندم على فراقها بعد حين.
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي على لسان قيس بن الملوح مخاطبًا ذاك الجبل الذي شهد أيامه مع محبوبته ليلى:
كلــما جـئــــتك راجــــعتُ الصِــــبا... فأبــتْ أيامُـــه أن تــرجــِعا
قـد يهــــون العـُـــمرُ إلا ساعة ـ وتهـــــون الأرض إلا مَوضِــعا
هذه الساعة التي توقف عندها العمر وهذا الموضع الذي اُختُصِرت فيه الأرض اختصارا، هو شاطئ العمر المضطرب الذي اطمأن إليه قيس ورست عليه سفينته، هي اليابسة التي لجأ إليها وألقى عليها عصاه واستراح، ليذقن فيها طعم الأيام الحلوة والذكريات السعيدة.