الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أنا رؤوف


بالأمس بعد عودة ابنتي من المدرسة جاءت كعادتها إلى غرفتي لتروي لي أحداث اليوم الدراسي الطويل بما فيه من مغامرات وخبايا، وعند دخولها بدأت حديثها معي بكلمة، أنا رؤوف، فالتفت إليها لأفهم ماذا تقصد من وصفها لنفسها بأنها رؤوف، واكتشفت من الحديث أنها أصبح ينتابها نفس إحساس رؤوف، الولد الذي ذاعت شهرته في إعلانات شهر رمضان الكريم، أنت محدش بيعملك حساب!.

انتبهت للحديث بكل تركيز واكتشفت أنها تحولت مع الوقت نتيجة تعاملاتها مع مدرسين وزملاء المدرسة إلى حالة نفسية عجيبة تشعر فيها بأنها لا أحد يعمل لها حساب وأنها أصبحت علي هامش الحياة، رغم أنني بطبعي لست من الأمهات العنيفة أو الديكتاتورية علي العكس لم أحاول يوما أن أُلغي شخصية أحد من أولادي، بل حاولت المستحيل منذ ميلاد طفلي الأول أن أجعله ذي شخصية مستقلة، صاحب رأي، يبحث عن وجوده ، يحاول أن يحقق ذاته ويستكشف مواهبه، ولَم تقتصر تلك المعاملة علي إبني الأول فقط بل كانت منهج حياتنا، وأسلوب للتعامل بيني وبين أولادي.

تعودنا أن نكون أصدقاء، نتحدث في كل مجالات الحياة بكل موضوعية، يستمع كل منا للآخر، الجميع له حق الكلمة والرأي، حتى جاءت ابنتي بالأمس لتصدمني بواقع مرير تحياه في فترة وجودها في المدرسة أنها أصبحت رؤوف. ابنتي وصديقتي التي حاولت المستحيل لإسعادها ولتعليمها في مدارس راقية حتي تحصل علي التوازن النفسي وتبتعد تمامًا عن أي مؤثرات قد تصيبها بالإحساس بالاضطهاد أو العنف ، تحولت رغم كل تلك المحاولات في النهاية إلى رؤوف، والسبب في ذلك أسلوب بعض المعلمات الفاضلات التي لا تستطعن التعامل بحنكة وذكاء حتي تنمي مواهب الأطفال وتُخرج أجمل ما فيهم ، وتبني جيلًا جديدًا من الشباب الذي يسعي لتغيير العالم.

الأحداث والمواقف كثيرة ، تراكمت مع الوقت ، وتجمعت وترتبت داخل ذهن ابنتي حتي أصبحت في النهاية في تلك الحالة النفسية الغريبة، والتي حاولْت كل المحاولات علي مدار حياتي معها أن أفعل المستحيل لتجنب الوصول لمثل تلك المشكلات النفسية، ولكنني في النهاية صُدِمْتُ بالواقع المرير، أن المؤثرات كثيرة ولا أستطيع وحدي أن أضع حدًا لها، أصبحت اليوم مطالبة أولًا ، أن أعيد الثقة لابنتي التي أصبحت زهرة في سن المراهقة تحتاج للدعم النفسي المستمر وحمايتها من هفوات البعض ، والتي ستتعرض لها رغمًا عني وعنها، فنحن نحيا في مجتمعِ متعدد الشخصيات متشبع بالسلبيات ولا نحيا في المدينة الفاضلة.

حاولت النظر للموضوع من الخارج وبصورة عامة بعيدًا عني وعن ابنتي، فانتبهت لأهمية بناء الإنسان، ولأهمية وجود كاريزما عند الموكلين بذلك من كل من يعمل في مجال التعليم، مرت أمام عيني شرائط الذكريات وتذكرت أستاذ نشأت ، مدرس فاضل أُكن له الكثير من مشاعر التقدير والاحترام، كان يعمل في المدرسة التي كنت أدرس بها حتي المرحلة الثانوية مدرسًا للرسم، أسلوبه الساحر في التعامل مع الطالبات ، جعلني أتمسك بموهبة الرسم التي حباني الله بها، تشجيعه لي ومساندته لموهبتي جعلتني أستمر ، وأقمت أول معرض تشكيلي لي وأنا في سن الخامسة عشر ، كنت ما زلت في المدرسة، وكرمني المولى بهذا المدرس الجميل الذي دعمني نفسيًا ، مع دعم والديّ رحمة الله عليهما، حتي أصبحت أنا اليوم، لا أُنكر فضلهما جميعًا في إثقال موهبتي والوقوف بجانبي سندًا وظهرًا قويًا أستند عليه.

قارنت بيني وبين ابنتي علي الرغم من أنها تتمتع بنفس الموهبة بل على العكس أنا علي يقين أنها إذا تخلصت من تلك الحالة النفسية السيئة وتخلصت من رؤوف الذي أصبح يسيطر عليها وهي في سن الزهور سوف تبدع أكثر مما أبدعت، وسوف تتفجر لديها مواهب أُخري لم تكن علي علم بها، فهي موهوبة بطبعها، ذات فكر وشخصية ولكن لم أستطع حمايتها الحماية اللازمة، لأن ما أفعله تهدمه المدرسة، وتحولت ابنتي الرقيقة إلي رؤوف، لا تستطيع أن تقدم علي عمل خوفًا من الفشل، لأنها لا تحصل علي الدعم الكامل من مدرسين دورهم الأساسي هو بناء الشخصية وتفجير الطاقات.

حال رؤوف لا يقتصر علي ابنتي فقط، فهو منتشر في كل مكان من مدارس وكليات ومعاهد وبعض مؤسسات العمل المختلفة، كيف تحول التدريس الرسالة السامية التي تعلم الإنسان وتزرع فيه الأمل إلي وظيفة ومصدر للرزق دون إبداع، أجيال من المبدعين ولّت، وأصبحنا في زمن رؤوف، حاول أن تدقق النظر في حال بعض الأطفال منذ دخولهم إلي المدرسة وهم في غاية الحماس والأمل، منهم من يتطلع إلي أن يصبح يومًا ما طبيب أو مهندس أو فنان مبدع أو مستشار يعمل في القضاء أو ضابط يحمل شرف الدفاع عن وطنه، وإذا ببعض المدرسين مع الزمن يحول بعض هؤلاء الزهور إلي نسخ مختلفة من رؤوف.

راجع شريط ذكرياتك وحاول أن تتخلص من رؤوف الذي صنعه البعض في حياتك ، كل منا يتذكر الأيام الحلوة التي تركت أجمل الأثر ونتذكر أجمل الشخصيات التي أثرت علي بناء شخصياتنا، ونتذكر أيضًا كل من تسبب في تحطيم نفوسنا وإلغاء شخصياتنا، ومحاولة تجاهلنا ومعاملتنا كنكرة لا وزن ولا قيمة لنا. 

الموضوع في غاية الخطورة بالتأكيد كانت له بذور في العصور الماضية ولكن كانت الصورة العامة للمدرس هي المعلم الجليل الذي كتب عنه أحمد شوقي كلماته الساحرة 
قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا 
كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي
يبني وينشئُ أنفـسًا وعقولا
سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ
علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى
أين هذه الصورة في مدارسنا اليوم، كيف تحولت مهنة التدريس إلي مجرد مهنة لا يعمل فيها المبدعون بل العديد منهم مجرد مدرس موظف يعمل لكسب قوت يومه وليس لبناء العقول. هل ضاعت أحلام أولادنا وثقتهم في أنفسهم بسبب من يصنعون العديد من شخصيات رؤوف في مجتمعنا دون وعي منهم لخطورة ما يفعلون؟ وهل نحن كآباء وأمهات أصبحنا مطالبين أن نصلح ما أفسده بعض المدرسين من صناع رؤوف؟ العمل يا سادة أساسه الإبداع، إذا لم يكن لديك ما تعطيه فلا تعمل في مهنة تؤثر علي مستقبل الآخرين.

يمكنك أن تعمل في مجال آخر تكسب به قوت يومك دون أن تدمر إنسان في بداية حياته يشعر باللأمل واللا قدرة علي الإقدام خوفًا من الفشل نتيجة ما يفعله البعض في بناء رؤوف بدلًا من بناء مبدع يبني مستقبل الوطن.(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط