الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد نورالدين يكتب: وترجل المجاهد عن جواده

صدى البلد

ها هو ذا فارس كبير، جديد من فرسان العلم يترجل من على جواده، تاركا محراب علمه لفرسانه وجنوده ممن تحت قيادته، بعد أن قضى نحبه بإخلاص وتفان وصدق، يشهد بذلك له ربه -تبارك وتعالى-، والقاصى والدانى، وكل من تعامل معه وسمع به، رحل بجسده، لكن تبقى روحه وعلمه نبراسا يتعلم منه الباحثون والمثقفون.

إنه الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي، "مؤرخ الأزهر"، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، عضو اتحاد المؤرخين العرب، واتحاد الأثريين العرب، واتحاد كتّاب مصر، عضو الجمعية المصرية للحفاظ على التراث، عضو جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة بوزارة الثقافة، الحاصل على درع شوامخ المؤرخين العرب، الحاصل على درع اتحاد المؤرخين العرب، وغيرها الكثير من المناصب والتكريمات التي يضيق مقامنا بذكرها، والذى وافته منيته عن عمر ناهز الـ76 عاما، بعد صراع مع المرض.

فقيدنا القدير الحبيب نعاه أساتذة وأرباب العلم في مصر والعالم أجمع، تقديرا لمكانته العلمية والخلقية الرفيعة الراقية التي كان يتمتع بها، لدماثة أخلاقه وصفاته العلمية البحثية الراقية التي تتسم بالأبوة الحانية الصادقة التي لا تكلف ولا تصنع فيها على طلابه، وباحثيه، وزملائه، وكل من اقترب منه متعاملا معه.

وها أنا ذا بدورى –الشخصي والمهني كإعلامى وكاتب صحفى- وتقديرا لمكانة عالمنا الفقيد أرثيه، وأشهد شهادة حق فيه -رحمه الله تعالى- بأن كل ما قد قيل فيه حقا وصدقا، وأروى تجربتى الصحفية مع فضيلته، إذ أكرمنى الله بإجراء حوار صحفى مع فضيلته نشر بجريدة "الاهرام التعاونى" ، على مساحة صفحة كاملة، تقديرا لمكانته العالية، وقضاياى المختلفة التي أثرتها مع عالمنا الجليل -رحمه الله تعالى-، والحق أقول أننى ما إن رأيته إلا ووجدت أبا حنونا عطوفا علىّ وعلى كل من حوله، من طلبته وزملائه بالكلية، فقابلنى بابتسامة حلوة صافية ونظرة ودودة حانية، وأذكر أننى أتيت قبله، فانتظرته، وعندما جاء تأسف أسفا شديدا لى على تأخره، نظرا لظروف المواصلات والطرق القاسية في بلادنا، فكنت في غاية الحرج من أسف عالم كبير قدير مثله لشخصى الفقير الى الله، فتعلمت منه خلق التواضع، والاعتذار لغيرى وهذا لا ينقص من قدرىومكانتى، كما أذكر أنه جاء وكان معه كيسا مليئا "بالبقسماط"، وأصر علىّ أن أفطر معه أولا، وكان كل من يدخل علينا لا يتركه إلا ويعطيه من الكيس ما يسد جوعه، إكراما وافضلا منه لمن حوله، في حنان وكرم فياض لا نظير له.

وعندما بدأت حوارى معه سألنى عن اسمى، وعندما علم أن كنية عائلتى "النجار"، أخذ يسرد لى تاريخ عائلة النجارعربيا ومصريا، فأدركت يقينا أننى أمام علَامة نسّابة قدير، قلّ ما يجود الزمان بمثله، وكان أول ما سألته فيه، كيف ترى المشهد المصرى والعربي بعين المؤرخ الآن؟ أجابنى بأن المشهد المصرى والعربي بكل الأسف الشديد "لا يسر عدو ولا حبيب"، مضيفا لى:المشهد كما ترى الدول الغربية توقع العرب والمسلمين بعضهم في البعض ليقتتلوا ويفتتنوا فيما بينهم، ثم يأخذون خيراتهم وبترولهم، وشعارهم في ذلك"فرق تسد"، ونرجو الله ان يخرجنا من هذه الحالة المزرية قريبا.

من القضايا المهمة أيضا التي أثرتها مع فضيلته -رحمه الله تعالى- تاريخ نشأة أزهرنا الشريف، ولعلك تعجب معى -قارئى الحبيب- ما قاله لى فضيلته حرفا، دون خوف أو وجل، وفى شجاعة مطلقة : كان الجامع الازهر خيرا وبركة على مصر، بناه ثلة من آل بيت النبى الفاطميين، وان كان بعض الباحثين والمؤرخين يقول غير ذلك وانهم العبيديون الشيعة، إلا أن الذى وضع أساسه هم الفاطميون الذين نشأت دولتهم في ولاية الميلا شرق الجزائر، فالذى بنى الازهر هو الجيش الجزائرى وبنى مدينة القاهرة والجامع الازهر في قصبتها ووسطها،ومدينة القاهرة الفاطمية مدينة جزائرية، مبنية على طرز المدن الجزائرية تماما، لها اسوار وأبواب تغلق ليلا على من فيها، وحولها الحراس، وعلى سور القاهرة اثنين من الخيالة يدورون حول القاهرة الفاطمية ليلا في ثلاث غفرات، كل غفرة ساعتين، فإذا عنّ لبعض من يريد الاعتداء على القاهرة، كان هناك فتحات في الأبواب لصب الزيت المغلى عليهم، فيبتعدوا عن أبواب القاهرة، وعندما بنوا الشوارع قرب الجامع الازهر، جعلوا الشوارع عمودية على الجامع ليهرع المصلون إلى الصلاة مباشرة اليه.

من آرائه أيضا الذى أثرتها معه -طيب الله ثراه-التأريخ لحلقات العلم بأروقة أزهرنا الشريف المختلفة، وحاضر الأزهر الآن، وبحثه ودراستهالمهمة عن آليات تطوير الأزهر من الداخل، واعتراضه على تعيين شيخ الازهر، بعد أن كان بإجماع هيئة كبار العلماء، ورأيه في جبهة علماء الازهر الداعية إلى إصلاح الأزهر، واهم جهودها، وهيئة كبار العلماء، وكيف يرى عملها ودورها الآنبالأزهر الشريف، ولماذا حلٌت فى عهد الدكتور الراحل سيد طنطاوى ؟، ورأيه فى مجمع البحوث الإسلامية، ومن عاصرهم من شيوخ الازهر؟ ورأيه في واقع المناهج الدراسية الازهرية الآن، وكيف يرى حركة التأريخ الإسلامي الآن؟، وتعرض التاريخ الإسلامي للظلم وضرورة إعادة كتابته مرة أخرى، وهل لعب المستشرقون دورا في تشويهه؟ وكيف نستفيد بتاريخنا الإسلامي الرشيد في حاضرنا ومستقبلنا؟ وما اهم المشاكل التى يعانيها الأزهر الان وحلول فضيلتهلها؟.

فكان مما قاله مؤمنا به في جرأة يحسد عليها دون خوف من لائم: إن أول حلقة علم بالأزهر كانت في عهد العزيز بالله، بمشورة الوزير يعقوب بن كلس اليهودى، وأنه كان للأزهر اوقاف " أراضى وعقارات وأطيان" أخذتها ثورة 1952 واعطتها للفلاحين، وأن الكليات التىأضيفت فى عهد الشيخ شلتوت أضعفت الدراسات الدينية والعربية جدا، وأن البساط سحب من تحت قدم الأزهر بعد وفاة الشيخ جاد الحق، مشددا أننا نريد من الإمام الطيب مخاطبة المسئولين الافراج عن وثائق شيوخ الازهر الحبيسة للتأريخ لهم، وأن مشاكل الازهر كثيرة " واتسع الخرق على الراقع "، والطالب مشغول الآن بلقمة العيش!، مؤكدا أن جبهة علماء الأزهر حاربت البغاء والاستعمار وسلبيات كثيرة ايام الملك، ولابد من إعادة تطوير المناهج الأزهرية التي أصبح بها " سلوقة " الآن.

وفى كلمته الأخيرة ووصيته التي طالبت فضيلته بتوجيهها للأزهر ولشيخه الإمام الاكبر فضيلة الدكتور أحمد الطيب، قال -رحمه الله- حرفا: أطلب من فضيلة الإمام الأكبر، وهو شيخ أمة الاسلام وأرجوه أن يوجه اهتمامه لطلاب الأزهر الفقراء، وكثير منهم لا يجدون لقمة العيش وقلبى يدمى من أجلهم واتحسر على عدم حضورهم، ونريد ان يكون التعليم حقيقيا وليس "دهانا على وبر" كما يقولون، ونريد اهتماما باللغة العربية، وكان الشيخ الشرباصى-رحمه الله- عندما تذكر كلمة كلية اللغة العربية يقول "حرسها الله معقلا للغة القرآن وأدب العرب "، وأطالب أيضا أن يعاد تدريس الخط العربى فى كليات التربية واللغة العربية بالأزهر بالقاهرة وبالأقاليم، كما لابد أن يأخذ برأى الخبراء ولا يغضب من أحد لقوله الصراحة، وأنا أرى أن الصراحة راحة للقلب والعقل والضمير، لأننا سنقابل الله فى يوم من الأيام، ويسألنا عن تفريطنا فى تعليم العربية وعلوم القرآن.

وها هو ذا الآن يعود الدكتور مجاهد توفيق الجندى -رحمه الله- لمسقط رأسه بقرية بلوس الهويبالسنطة بمحافظة الغربية بعد أن غيبه الموت جسدا، كما شاءت إرادة وسنة الله -سبحانه- على خلقه، ليدفن بترابها عن عمر يناهز 76 عاما خلت منه، لتبقى حياته العلمية نبراسا ينير للسالكين من بعده دروبهم وسبلهم، ولتروى لمثله أجَّلُ الحكايات التي تحكي للحاضر ما قدمته من عظيم علمك وعصارة فكرك ومشاركاتك في بناء لبنات علم التاريخ الإسلامي والمخطوطات وغيرها محليا وعالميا، وأياديك البيضاء المحسنة على كل من عرفك وصادفك.. طبت حيا وميتا عالمنا الجليل، ورحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى، وغفر لك وجزاكخير الجزاء عن الاسلام والمسلمين.