الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جامع عمرو.. التاريخ والقامة


وافق الثامن من الشهر الجارى ذكرى العام التاسع عشر وأربعمائة وألف هجرية لبناء وافتتاح جامع عمرو بن العاص، ذلك الصرح الإسلامي المهيب الذى حبا الله تعالى به مصرنا الحبيبة، ببركة ونور وإيمان ساداتنا الصحابة الأجلاء، وأياديهم الوضاءة، التى شرفت، وسعدت، وتباركت بهم مصرنا الحبيبة، وأرضها وشعبها الطيب في فتحهم الجليل لها، وإنقاذ المصريين من ظلم وجور الرومان، الذين كانوا يحكمونهم مضطهدين إياهم.

جامع عمرو بن العاص له من الروحانيات والتجليات والبركات والأسرار، ما يجعلك -قارئى الحبيب-وكل من يدخله زائرا أو مصليا، تتعلق به تعلقا ربانيا، كما تتعلق قلوبنا بأماكننا المقدسة، الحرمين الشريفين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، وغيرها من البقاع الإسلامية التاريخية الأثرية الأخرى، التي كانت يد الفضل والجهاد والعلم والايمان لصحابتنا الكرام رضى الله عنهم سباقة فيها، بنشر خاتم الرسالات، وعندما تتساءل عن سر هذا الحب والتعلق، لا تدرى إجابة لذلك، إلا المحبة والعشق الالهى الذى يقذفه المولى قذفا في قلوب عباده.

من تلك الروحانيات والتجليات والأسرار والذكريات الحبيبة إلى فؤادى ولبّىمع جامع عمرو بن العاص، والتي لا أنساها أبدا ما حييت، ذلك الموسم الثقافي الذى عقد به على مدار أسبوع كامل في تسعينيات القرن الماضى، احتفالا بالفتح الإسلامي لمصرنا الحبيبة، وبناء جامع عمرو بن العاص، ودعانى إليه أخى الكبير مؤرخ جامع عمرو بن العاص العلّامة الدكتور عبد الله إبراهيم المصرى الباحث التاريخىوالاسلامى، عضو لجنة الزكاة ومجلس الإدارة به، لتغطية هذا المهرجان الثقافي الكبير صحفيا وإعلاميا، والذى حوى عددا كبيرا من الندوات التاريخية والثقافية لعلمائنا كبار أساتذة جامعة الأزهر الشريف، جنبا إلى الأمسيات الشعرية لكبار الشعراء محبى الجامع العتيق.

أذكر من هؤلاء العلماء العظماء الذين أجريت معه حوارات وتحقيقات في هذا العرس التاريخى، فضيلة العلّامة الشاعر الدكتور سعد ظلام، عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عضو مجمع البحوث الإسلامية -رحمه الله-، وفضيلة الدكتور محمد عبد السميع جاد، عميد كلية الدعوة الإسلامية الأسبق -رحمه الله-، والدكتور إبراهيم المتناوى، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر، صاحب مؤلف "فتح مصر بين الرؤية الإسلامية والنصرانية" -رحمه الله-، وفضيلة الدكتور إسماعيل الدفتار، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر وخطيب جامع عمرو بن العاص السابق -رحمه الله-، وغيرهم.

وها أنا ذا أعود لجامع عمرو بن العاص مرة أخرى هذا العام، في هذا الشهر الجارى، ومن خلال أستاذى الدكتور عبد الله المصرى، مؤرخ الجامع، لنحتفل معا بذكرى بناء الجامع، ولنشارك قراءنا ذلك الحدث المبارك المهيب، لهذا الصرح التاريخى القامة والقيمة، من خلال حوارى مع فضيلته، وذكرياته التي تحويها جعبته وعقله الجمعى التأريخى له.

الدكتور عبد الله المصرى بحق، هو مؤرخ جامع عمرو بن العاص في عصرنا المعاصر والحديث، حاز هذا اللقب الذى أطلقه عليه فضيلة الدكتور عبد الصبور شاهين، وأكده من بعده فضيلة الدكتور إسماعيل الدفتار، عن جدارة، لكثرة مؤلفاته عن الجامع وخطبائه، وتأريخه له تأريخا موضوعيا، دقيقا، سليما، بعيدا عن الهوى والنزعة الشخصية التي تعترى بعض مؤرخى التاريخ، فهو كاتب وباحث إسلامي وتاريخى، تشربت روحه وفؤاده بعشق جامع عمرو بن العاص منذ أن كان صغيرا، ولما لا، وقد ولد بالفسطاط بجوار الجامع بمصر القديمة بالقاهرة، ثم ترجم هذا العشق فحصل على ليسانس آداب القاهرة قسم تاريخ، ثم ماجستير في التاريخ الإسلامي عن تاريخ الجامع ذاته بعنوان "دور جامع عمرو بن العاص في الحياة الثقافية في مصر حتى نهاية الدولة الإخشيدية" بتقدير امتياز، ثم دكتوراه في فلسفة التاريخ الإسلامي من آداب طنطا بعنوان "دور جامع عمرو بن العاص في عصر الفاطميين والأيوبيين" بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى.

مؤرخ جامع عمرو بن العاص صرح لى أن من أسباب تأريخه للجامع العتيق المبارك، الإمام الليث بن سعد، هذا العالم الفقيه الكبير المتفرد بمذهبه في مصر والعالم الإسلامي، الذى كاد يكون صاحب المذهب الخامس في الإسلام، وكان يناظر الإمام مالك، وكان أيضا مفسرا للقرآن وشاعرا ومؤرخا وناثرا وله كتب كثيرة، لكنها للأسف ضاعت بسبب إهمال تلاميذه لها، حتى أن الإمام الشافعى كان يقول عنه: "كان الليث أفقه من مالك إلا أن ضيعه أصحابه"، لهذا كله قطع "المصرى" عهدا على نفسه بأن يحافظ على تراث علماء جامع عمرو بن العاص خطبا وخطباء.

ذكريات كثيرة جدا قصها على الدكتور عبد الله المصرى مع خطباء الجامع من كبار علمائنا الأجلاء رحمهم الله تعالى، الشيخ محمد الغزالى، والشيخ عبد الحميد رضوان، والدكتور محمد عبد السميع جاد، والدكتور عبد الصبور شاهين، والدكتور إسماعيل الدفتار، وغيرهم ممن ارتقى واعتلى منبر الجامع المبارك خطيبا، لولا ضيق المقام، كنت ذكرتها كلها، لكن ما استوقفنى منها تلك الذكريات الجميلة التي تنم عن أصالة ومعدن الإنسان المصرى النفيس، في ليلتى القدر وختم القرآن الكريم في رمضان بالجامع، وإمامة الشيخ محمد جبريل فيهما لآلاف المصلين، وعنهما يقول: إن الشيخ محمد جبريل استطاع بحلاوة صوته أن يجمع المصلين من جميع محافظات مصر، في مشهد مهيب يعيد إلى الأذهان عظمة أصوات دولة القراءة والقراء في جامع عمرو أمثال رواد القراءات عقبة بن عامر وورش والشاطبى وغيرهم، حتى أنهم كانوا يقومون بفرش الشوارع المحيطة بالجامع بالحصير للمصلين الذين فاضت أعدادهم حتى وصلوا إلى شارع صلاح سالم شمالا، ومحطة مترو مار جرجس جنوبا، وسور مترو الأنفاق غربا، حتى وصل العدد دون مبالغة لنصف مليون مصل.

من الذكريات الجميلة ما رآه في الوحدة الوطنية لشعبنا العظيم، في أروع وأجلّ صورها، حيث يفترش المصلون أرصفة الكنائس القريبة من الجامع، ويوزع عليهم رعاة وقساوسة الكنائس الماء والبلح، وكان السكان المسيحيون يساعدوناخوانهم المسلمين في فرش الشوارع بالحصير.

والآن ندائى لوزير الأوقاف معالى الدكتور محمد مختار جمعة، ولقيادات أزهرنا الشريف مشيخة وجامعة، أن يعيدوا لهذا الجامع مهابته التاريخية والعلمية، وأن يعاد إقامة تلك الاحتفالات الدعوية التأريخية الثقافية به احتفالا بذكرى بنائه وفتح مصر العظيم، كما كان يحدث في التسعينيات من القرن الماضى، وذلك لمكانة جامع عمرو بن العاص، الذى لم يكن وقفا على أداء الصلاة، بل كان دارا للاعتكاف، والإفتاء، ومقرا للقضاء، ومحكمة لفض المنازعات الدينية والمدنية، ومقرا لعامل الخراج، ودارا للرعاية الاجتماعية، ومركزا للحكم واستقبال الوفود والسفراء، ومدرسة دينية أسسها الصحابة الفاتحين أمثال عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر وتميم الدارى وغيرهم.

وأن تتبنى جامعة الازهر الشريف برئاسة الأستاذ الدكتور محمد المحرصاوى محاولة الدكتورين عبد الحليم محمود ومحمد البرى -رحمهما الله- في إحياء جامعة الفسطاط الإسلامية في جامع عمرو بن العاص، وهى الجامعة الأولى في مصر وأفريقيا بإقامة كلية للدعوة، والتي تم التجهيز للمشروع بالفعل، لكن وأدت الفكرة للأسف، وأن يتبنى بنفسه فضيلة شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب تأسيس كليات أزهرية جديدة، أو نقل بعض كليات جامعة الأزهر إلى جامع عمرو لإحياء دوره التاريخى والتنويرى على مدار مئات السنين، التي كان فيها نعم القامة والقيمة لمصرنا الحبيبة، بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمائه وخريجيه، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-