الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هولندا / سبينوزا/ نجيب محفوظ/ فرج فودة "٤"


لم تلجأ المؤسسة الدينية اليهودية في بادئ الأمر إلى إصدار البيان - ضد الفيلسوف سبينوزا - الذي استعرضناه في المقال السابق هكذا دون محاولات لإعادة الفيلسوف إلى "جادة الصواب" -كما يفهمها رجال الدين- فحاولت المؤسسة الدينية اليهودية في البداية أن تعامله بإحسان ولطف ومن دون أذىً، فدعته إليها وكلمته عن آرائه وعما إذا كان ما نسب إليه صحيحًا، فأقر بذلك ولم ينكره، بل ودافع عنه وقال لهم أن له الحق في حرية الرأي والتفكير.

وعلى الرغم من ذلك جعلت المؤسسة الدينية اليهودية الأبواب مفتوحة والمحاولات مستمرة لإعادة الفيلسوف إلى سابق عهده، فأشهدت المؤسسة على ما قاله شهود ومع ذلك لم تطبق عليه أحكام الشريعة اليهودية آنذاك لا يكون ذلك سببًا في انضمامه الى المسيحية.

وكما هو متبع في بعض الديانات ولدى معظم الحركات والغالبية من الجماعات استخدمت المؤسسة سلاح "الجزرة" حيث لم يجد سلاح "العصا الخفيفة" في بادئ الأمر فحاولت بعد ذلك أن تغريه بالمال، فأرسلت مع أحد أصدقائه رسالة تعرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال يكفيه ليعيش حياة مترفة طوال حياته؛ إذا هو توقف عن نقد اليهودية ورجال الدين اليهودي، وحضر الكنيس بين "حين وآخر"!.

وكما حال كل صاحب إيمان برسالته والذين يأتي على رأسهم الأنبياء والمرسلين، ثم أصحاب الفكر والتعبير رفض سبينوزا حياة الهناءة والدعة مع التنصل لعقله وفكره والتخلي عن سلطة العقل التي ميز الله الإنسان بها، واختار أن يحيى حياة صعبة متشقفة ويعيش وحيدا منبوذا، ولولا عطف الأسرة الهولندية التي كان يسكن في بيتها، لم يكن ليجد مكانا يأويه وهو المفكر والفيلسوف الذي آثر أن يدافع عن قناعاته وأفكاره وأصر على حرية الرأي، والاستمرار في المجاهرة بأفكاره وبتدريسها لطلابه. مبديًا آرائه ومؤكدا أنه لم يقترف ذنبًا بحق قانون الدولة ولكنه فقط مارس حقه "المطلق" في مراجعة دين آبائه والدين بصورة عامة وأنه عرض رأيًا مخالفًا لما هو معتمد من السلطة الدينية وما هو سائد من فهم للدين.

ونتيجة لهذا الأمر الذي أصدره الكنيس اليهودي، اضطر سبينوزا أن يتخلى عن العمل التجاري بعد صدور الطرد حيث كان يعمل بالتجارة مع أخيه بعد وفاة أبيه وأخذ يعمل في صقل العدسات وجلْوَها وهو عمل أجاده وأتقنه. وكان يسترزق منه وكان يقول إنه فقط يريد أن يحصل على مال ليدفع أجر سكنه وثمن غذائه وأجر دفن جثته. ويقال إن عمله في صقل العدسات أثر في صحته وسبب موته فيما بعد. وبلغت اجادته لهذا العمل حدًا جعله معروفًا قبل أن يشتهر كفيلسوف له أهميته وفلسفته الخاصة به.

نترك سبينوزا مع صقل العدسات يعاني شظف العيش، ونغادر العاصمة الهولندية أمستردام بالقرن السابع عشر، حاطين الرحال بالعاصمة المصرية القاهرة في بدايات القرن العشرين حيث كانت تموج بحركة تنويرية تسعى لتحرير العقل المصري والعربي في آن.

فلقد حمل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين معوله الشكي لتحطيم "تابوهات" يرى أنه عافاها الزمن في دراسة الأدب فوجدناه يمسك فأسه موجها ضرباته لإيقاظ العقل العربي من سباته العميق وذلك من خلال المنهج الديكارتي في دراسة الأدب العربي في الكتاب الذي حمل اسم "في الشعر الجاهلي" الذي ذكر فيه أن الأدب العربي في الخمسين سنة الأخيرة, قد انحدر وأصابه المسخ والتشويه بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون. وهذا أمر ليس خليقًا بأمة كالأمة المصرية كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، عصمت الأدب اليوناني من الضياع، وحمت الأدب العربي من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر.
 
وأكد طه حسين أن اللغة العربية لغة مقدسة لأنها لغة القرآن الكريم والدين. ولأنها مقدسة فهي لا تخضع للبحث العلمي الصحيح الذي قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير. وأعلن أنه يريد أن يكون تدريس اللغة العربية وآدابها شأن العلوم التي ظفرت بحريتها من قبل.

وأراد أن يضع حدودا فاصلة واضحة فأكد أن الأدب العربي شيء والتبشير بالإسلام شيء آخر.
وتعرض لموقف الكاتب والمؤرخ، ضاربا مثلًا، متصورا مشهدا قائلا: إذا أمرت أي سلطة الكتاب والمؤرخين أن تكون كتاباتهم ودراساتهم مقصورة على تأييد هذه السلطة، أليس الكتاب جميعًا- إن كانوا خليقين بهذا الاسم- يؤثرون أن يبيعوا الفول والكراث على أن يكونوا أدوات في أيدى هذه السلطة، ويفسدون بهم العلم والأخلاق. وكأني بعميد الأدب العربي يشير إلى نفس الموقف الذي اتخذه سبينوزا الذي تركناه منذ قليل يصقل العدسات ويجليها، مفضلا ذلك على المال الذي يأتيه دون أدنى تعب، شرط أن يتخلى عن فكره ويهمل فكره، ويسكت عقله.

وفي كتاب طه حسين الهام - في الشعر الجاهلي- شكك في قيمة الأدب الجاهلي، وألح – كما يقول - في الشك. وانتهى بنتيجة محددة هي أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًا، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًا، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. فالشعر الذي ينسب إلى إمرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر "القرآن".

إنه رأي صادم لا نظن أن تسكت عنه الجماعات الدينية ولا أن تصمت لما فيه المؤسسة الدينية الرسمية وهو ما كان حيث قوبل الكتاب بمعارضة شديدة لأنه يقدم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها. يخالف الأسلوب النقدي القديم المتوارث. هذه المعارضة قادها رجال الأزهر، واتهم طه حسين في "إيمانه"، وسحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه. وقامت وزارة إسماعيل صدقي باشا عام 1932م إرضاء للتيار الديني بفصل طه حسين من الجامعة كرئيس لكلية الآداب. فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته.

لم يقف الأمر عند ذلك، حيث أنه في الثلاثين من مايو 1926 كان قد تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ للنائب العمومي يتهم فيه طه حسين بالطعن الصريح في القرآن الكريم ونسبته إلى الخرافة والكذب إليه والطعن في الرسول ونسبه الكريم في كتابه المنشور المعنون ( في الشعر الجاهلي ).
وهنا كان للقضاء المصري حكم تاريخي كاشف .. يتبع
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط