الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إعدام طه حسين "٢"


لعلك بعد اطلاعك - أيها القارئ الكريم، في المقالة- على هذه الإشكاليات والجرأة الرهيبة التي تخلّق بها الدكتور طه حسين في الطرح، توافقنا الرأي أن الضجة الهائلة كانت مستحقة فلقد ألقى عميد الأدب العربي بنشره هذا الكتاب - الذي نراه كان بمثابة إعلان حرب - بظلال من الشك حول كل التراث الإسلامي. 

ولعلك كذلك توقفت عند القضاء المصري الشامخ الذي قضى آنذاك بتبرئة طه حسين من تهمة ازدراء الإسلام، وفي هذا رد بليغ على هؤلاء الذين يتطاولون مرة، ويشككون أخرى في القضاء المصري، وهو تطاول مقصود، وتشكيك مدروس؛ يهدف إلى هدم تلك العلاقة المتينة بين الشعب ومؤسسة القضاء، بكل أركانها: نيابة قضاء محاماة، ذلك الذي لو نجح فيه أعداء هذا الوطن لحققوا هدفا كبيرا من أهدافهم للقضاء على أسس الدولة الوطنية المصرية. 

وهنا نطرح سؤالا: هل بعد أن أغلقت النيابة المصرية القضية بحفظها، هذا الذي يعني أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بريء من تلك التهمة الخطيرة بالردة، التي تستوجب عند البعض القتل. هل بعد ذلك نظر أنصار التيار المغلق من الإسلام هذا التيار الذي يفرخ الإرهابيين، في كل عصر وكل وقت، هل اقتنع هؤلاء ببراءة العميد من التهمة الرهيبة؟ 

هذا ما لم يتحقق، حيث ظل التيار الإسلامي كله، إلا من رحم ربي، بترسيخ فكرة أن طه حسين كافرا، ثم أضافوا إليه بعد ذلك رموز التنوير في مصر وكان على رأسهم الأديب العالمي نجيب محفوظ والمفكر المصري فرج فودة، في نشر على الملأ لثقافة التكفير. 

فالأول كما يعلم الجميع قد تلقى طعنة في عنقه، وجهها له من اقتنع وآمن إيمانا راسخا بأنه يستحق القتل، ذلك الإيمان وهذا الاقتناع الذي تغلغل في نفس القاتل، لم يأت هكذا من تلقاء نفسه بل ممن ألقاه شيوخ - يؤمن بورعهم هذا القاتل - في نفسه، ومما ملأ الدنيا به وعاظ أوهموا البسطاء أنهم يملكون الحقيقة المطلقة ومن ثم فهم المخولون من لدن عزيز حكيم بالحفاظ على شرعه ودينه، فصدقهم هؤلاء البسطاء، الذين رأوا في أديبنا العالمي نجيب محفوظ ضررا محدقا بالمجتمع الإسلامي وبالمسلمين جميعا بل وبالإسلام نفسه، فسل أحدهم سكينه وغرسه في عنق الأديب يريد نحره والإجهاز عليه. 

ذلك ذاته الذي حدث مع المفكر فرج فودة، وإن كان بشكل مخالف ونتيجة مغايرة، حيث نجا الأديب بأعجوبة من الموت تلك الأعجوبة التي تخلت عن فودة، ففارق الحياة شهيدا للفكر، وضحية للجهل والانغلاق.

هذا الذي يعيدنا مرة أخرى لما قاله الشيخ عمر عبد الرحمن الذي ذكر من أمريكا تعليقا على رواية آيات شيطانية للهندي المسلم سلمان رشدي: لو كنا قتلنا نجيب محفوظ لما تجرأ رشدي على كتابة روايته، ذلك الذي كان فتوى صريحة من الشيخ الأزهري المتطرف بحل دم نجيب محفوظ، فكانت محاولة قتله التي سبقها بعامين استشهاد فرج فودة. 

وكلا الحادثين يذكرنا بمحاولة قتل الفيلسوف سبينوزا بعد بيان الكنيس اليهودي في أمستردام، خاصة وهناك تشابها بين تلك الحوادث الثلاثة حيث كانت محاولة كلا من نحيب محفوظ وسبينوزا بالطعن في الرقبة، وجاءت التحقيقات بقاسم مشترك للثلاثة " سبينوزا ومحفوظ وفودة" حيث أكد الجناة في الحالات الثلاثة أنهم لم يقرأوا شيئا للمفكرين الثلاثة، ولكنهم نفذوا جريمتهم بوازع ديني وبفتوى من رجال الدين. 
أما اغتيال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فجاء بعد رحيله عن الحياة بعدة عقود، حينما تجمعت في أحد أيام الجُمَع في العام ٢٠١٣ جماعات تيار الإسلام السياسي فيما أطلق عليه - يا للعجب - «جمعة لا للعنف»، فتتسلل مجموعة غامضة كي تنزع رأس تمثال لعميد الأدب العربي طه حسين، وكأنه تنفيذ لحكم قديم صدر عام 1926 عندما أصدر كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» والذى استند فيه إلى المنهج الديكارتي في البحث، فانتفض بعض المتأسلمين بادعاء الغضب للدين، وكان طه حسين نفسه قد تنبأ بذلك حينما كتب في مقدمة كتابه: «أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين، فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة».

إذًا الاستنارة هي السبيل الوحيد للوصول إلى إعمال العقل في الموروث من ناحية، وفيما يخص الحياة عموما من ناحية ثانية؛ ذلك الذي لن يتم إلا من خلال السعي لنشر ثقافه الاختلاف وإتخاذ منهج البحث العلمي القائم على الدليل والتجربة الذي يحي ان يخضع إليه جميع المسائل التي يختلف عليها المتخصصون؛ فمن غير المعقول أن نجد كل خلاف يصل إلى التناحر، دون عرض القضية على المشتغلين في مجال بحثها، لا لشيء سوى لرغبة في استقطاب الرأي العام بدون بغرض مكسب ضيق، وذلك الاعتماد على قوالب جاهزة يستخدمها الكل بدون دراية. هذا الذي له أثر سلبي تعاني منه الدولة المصرية منذ فترات طويله.
إن تلك الاستنارة المنشودة لا يمكن تحقيقها إلا في جو صحي وبيئة ملائمة، تكون الديمقراطية أسلوبها والحرية فضاؤها، كما كان الحال في هولندا سبينوزا؛ التي كانت ملاذا لكل مفكر وكل فيلسوف وكل صاحب رأي وكل مضطهد، فلا مناص إذًا من إرساء دعائم الديمقراطية، وتقبل الآخر وتقبل مختلف الآراء وأن يستشعر المواطن ضرورة الدور الذي يؤديه، وأن يتحمل جميع أبناء الشعب مسؤولية القرارات سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو حتى ثقافية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط