الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد صلاح يكتب: سوق التبليطة

صدى البلد

دائما ما أحب المشي من مترو العتبة مخترقا الموسكي حتي جامع البنات ثم شارع الأزهر، وبعدها انعطف يمينا لأمر من جوار قبة ووكالة الغوري حتى أصل إلى تكية أبو الدهب، المسافة ليست طويلة للحد المرهق ولكنها كافية أن تشحذ ذاكرتي بالوجوه، وجوة بكل الأشكال والألوان والأصباغ، طلبة أزهر مصريين وإندونيسيين وصينيين، سائحين من كل الجنسيات، نساء من مختلف المناطق تعرفهن من ملابسهن واصباغهن وخاصة رسمة الحاجب، اتتني تلك الخبرة من كثرة ما طلعت الوجوة والأصباغ.

اصل الي مقر عملي بمتحف نجيب محفوظ بتكية محمد ابو الدهب مشحونا بتلك الوجوة ورغبة نزقة في الكتابة، واقول في نفسي ان حياتنا كلها مجرد مشاهد متتابعة قد لا تترابط بشكل منطقي ، فمنذ عشرون عاما لم أكن اتخيل أن أكون بتلك المنطقة العجيبة ، ولا أكلف بهذا العمل، ولكننا جميعا مجرد مشاهدون لفيلم نحن ابطاله، وقد تظهر شخصيات ثانوية تخطف منا الكاميرا، شجيع سيما أو شجيعة سيما، يسرقون من الكاميرات وتصفيق المشاهدين ثم يختفون فجأة .

من هؤلاء كانت أم مصطفي، ولا أعرف لها اسما آخر، فقط ام مصطفي بائعة الخضار في سوق التبليطة الذي لم نستطع ازالته بعد تطوير الشارع الذي يحمل نفس الاسم، ام مصطفي سيدة من أولاد البلد، عفوا ... لن اقول بنات أو سيدات البلد، فهي في جدعنتها مثل الرجال تماما، في جيناتها فتونة وجدعنة أولاد البلد، بالكاد تخطت ام مصطفي العقد الرابع من عمرها، أما ملامحها فجميلة بعيون عسلية فاتحة وجسد مكتنز متضخم العجز والصدر بدون ترهل، ضامرة البطن مفعمة بالنشاطوالحركة، تتكلم سريعا وكأنها ستأكل الأحرف .
بداية معرفتي بها عندما ذهبت الي الكشك المقابل لفرشتها لأبتاع ورق البفرة الذي استخدمه للف السجائر بعد إقلاعه عن تدخين السجائر العادية بسبب ارتفاع ثمنها، وقفت امام البائع بالكشك وهمست له بأنني اريد باكو بافرة ماركة أوتو مان، وجدتها تضحك وهمسي لصاحب الكشك قد تسرب لأذنيها، هتفت
" أحبك يا ابو مزاج فللي"

ضحك صاحب الكشك، استدرت لأجد المراة الجالسة تنظر لي وتضحك ، تنظر الي باكو البفرة وتغمز بعينها من خلف أكوام الطماطم والخيار والجزر، وصاحب الكشك ينقل بصره بيننا قلت وكانني أدفع تهمة
" انا بدخن سجاير لف مش لحاجة تانية"
قالت بشقاوة بنت البلد
" وماله يا خويا .. ولو حتي لحاجة تانية حد هيضربك "
ضحكنا جميعا .. مر " موكا" نادل القهوة المجاورة يحمل صينية عامرة بأكواب الشاي المغطاه بأطباق الفناجيل وأكواب القهوة الفارغة وبجوارها كنك القهوة يفوح منه عطرها، مر سريعا من جواري وهو يقلب كزب شاي بدربة ومهارة ثم يعطيه لأم مصطفي التي نهرته وهي ترفع حاجبها
" ما تشوف شاي الأستاذ ايه ياللي معندكش نظر "
استدار لي " موكا" مدهوشا وابتسم كاشفا عن صفين من الأسنان الصفراء المفقود نصفها، شكرت ام مصطفي ولكنها اصرت أن اتناول معها كوب شاي
" وتلفلي سيجارة بالمرة "
تناولت كوب الشاي من "موكا" الذي ذهب مسرعا مخترقا السوق، وضعته بجوار أم مصطفي ثم هرولت ناحية التكية لألف سيجارة، عدت احمل سيجارة لي وأخري لها، وجدتها وقد وضعت قطعة من الورق فوق كوب الشاي ليحجبه عن الذباب، جلست أمامها علي قفص من الجريد، وبدات تحكي، قالت أنها اما لثلاث ، بنتين وولد، قالت أن البنتين في التعليم احداهم التحقت بالجامعة والأخري مازالت في الثانوي العام، أما الولد فطلع بايظ مثل أبيه، ترك التعليم، ودوما تجد قطع الحشيش في ثنانيا ملابسه، اردفت أنه يعمل معها علي افرشة، أما أبيه فيجلس في البيت لا شغلة ولا مشغلة، الا مرازية البنات والواد وايضا هي، لحظات ودخلت فتاتان بارعتا الجمال والرقة، قصيرات القامة قليلا ولكن ملامحهن في غاية الفتنة، يرتيدن عباءات سوداء واسعة، ابتسمن لي مدهوشات من جلستي علي قفص الجريد بجوار أمهن، فهتفت أم مصطفي
" سلموا علي عمكم يا بنات"
سلمن مبتسمات، اتخذت كل واحدة ركنا، ودون كلمة أخرجن جوال بامية وبدان في تقميعها ثم وضعها في أكياس بلاستيك
" خطوبة المضروبة الحلوة دي قربت .. هتيجي؟"
قلت بود
" علي عيني "
قالت تنفسني في الود والدفء
" تسلم عيونك"
علا شجار في آخر السوق، وجدت " موكا" بائع الشاي يتعارك مع رجل عجوز، رجل نحيف للغاية وكأنه قد من سعف نخلة عجفاء اهتم الفم ولكنه كان يدفع موكا في صدره بقوة يكاد يلقيه ارضا ، يسبه بكل السباب القبيح في الدنيا، ضحكت ام مصطفي
" عادتهم ولا هيشتروها كل يوم كدة"
استفسرت منها عن الأمر فقالت أن الرجل النحيف صحاب المقهي داخل السوق ، فهمت أن موكا ياخذ منه الزبائن وأن هذا الشجار لا ينتهي ابدا
اقترب شخص في تؤدة من هذه الخناقة الدائرة، رجل ربع القوام يرتدي جلبابا نظيفا وحذاء كلاسيكي لميع، راس الرجل صلعاء الا من نتف سوداء مصبوغة تحيط بقفاة، اقترب هو من الجميع فصمتوا تماما، قالت ام مصطفي وضحة
" دا بقي معلم السوق"
دفع معلم السوق "موكا" من ظهره وكانه يطرده والأخير يبرطم أمامه، استمر الرجل العجوز في السب فاستدار المعلم صائحا فيه بصوت اجش
" ماخلاص بقي يا صالح .. ما تلم الليلة هو كل يوم الموال الأغبر دا"
كان لهجته صعيدية مشوبة بالقاهرية المستحدثة، خرج موكا يسب ويلعن الرجل النحيف وعلي وجهه علامات الغضب ، استدار صاحب المقهي لصالح، بدا يتكلم همسا وهو يشوح بيديه، جلس علي أحد مقاعد مقهي صالح، الذي اتي له بتعميرة وكوب شا، وجدت نفسي لا اراديا اترك كوب الشاي في يدي وأم مصطفي واتجه لا اراديا نحو المقهي الصغير .
المقهي عبارة عن فاترينة صغيرة رصت عليها الأكواب والفناجين ، بجوارها " رماله" لصنع القهوة وهي صينية من الصاج مليئة بالرمل واسفلها نار تغمس كنكه القهوة في الرمل وتترك لتسوي بهدوء ، بجوار الرمالة موقد غازي بشعلة واحدة عليه براد شاي ضخم تحول نصفه السفل للأسود ، البراد يغلي وينفث البخار، جلست علي مقعد بعد أن القيت السلام ، رد الجميع التحية ، التفت لي معلم السوق
" يا مرحب بالثقافة كلها"
ابتسمت .. فبالتاكيد الرجل يعرفني، أخرج علبه سجائره المارلبورو وأعطاني واحد، نادي صالح ليأتي لي بكوب شاي علي حسابة وكوب ماء مشبر، اخرج ولاعته واشعل لي السيجارة
" نورتو التبليطة والبطنية كلها.. ايوة كدة .. متحف ومثقفين حاجة ألاجة "
هتف أحدهم من حانوته ، كان عجوزا للغاية وكأنه جاء من زمن ىخر
" الغاليين أصحاب الغالي .. حكم أنا وعمك نجيب كنا اصحاب.. ياما فات علينا هنا في التبليطة وقعد علي قهوة صالح وشرب الشاي والشيشية"
كنت اعلم أن نجيب محفوظ وطات قدماه منطقة الغورية والباطنية والجمالية كلها ، ولا أستغرب أ يقول أو يدعي أحدهم أنه جاء الي هنا ودخن حجر شيشة ، سحب الرجل العجوز الذي يكبر عم صالح ببضع سنوات لا باس بها كرسيا وجلس معنا قال بصوت عال
" شيشية للأستاذ"
ثم مال علي أذني
" حاكم كل الجماعة المثقفاتية ليهم في الشيشة "
اطفات السيجارة ، تناولت مبسم الشيشة التي حضرت سريعا، وأنسابت ذكريات الرجل عن نجيب محفوظ، والجميع يستمع