الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الوجه الذي توارى للأبد  


محطة الحافلات بمدينة المنصورة لم تتغير منذ نحو عقد ونصف، هي عمر رحلتي المُعتادة بين قريتي الهادئة والقاهرة، طالبًا جامعيًا ثم موظفًا وقاطنًا بها، فقد كانت على حالها حين ولجتها مساء السبت عائدًا من الأرض الطيبة، فشُباكُ التذاكر يختفي وراء طابور المُسافرين المُزدوج، رجالٌ ونساء، والموظف وراء الدائرة المُفرغة يتعامل مع رواده بتأفف ودون صبر، بينما ناظر المحطة البدين يقف بعويناته السميكة، يُراقب الحركة دون اهتمام، والعامل الأسمر الفارع الطول يهرع ليلتقط من أيدينا الحقائب، يودعها بخفة في قلب الحافلة، وهو يعيد التأكيد على قاعدة "نزول الشنط في نهاية الخط ياحضرات"، ثم يتمنى لنا سلامة الوصول، مُنتظرًا البقشيش البخس الذي يُودعه جيب سترته برضا.
 
كُنتُ أتنقل بين تلك الوجوه المألوفة أبحثُ عن وجه بعينه، كان يستقبلني في كل مرة أقرر فيها أن أستقل الحافلة من هنا، فيندفع نحوي بخُطى وئيدة، مادًا يده اليُمنى ليُصافحني وكأنه يرحبُ بي في بيته، بينما ذراعه اليسرى تتأبط كومة مُنمقة من الصُحف والمجلات يبيعها للرُكاب، يتذكرني في كل مرة، فتنفرجُ شفتاه عن ابتسامة تُشعرني بالقرب، فأمضي نحوه لأصافح يده الممتدة بود، وأتبادل معه عبارات قصيرة، أسئله عن حاله وأجيبه عن حالي، وأبتاع منه صحيفة أو مجلة اختصر بقراءتها ملل الطريق، أنقده ثمنها، ثم يتركني ويمضي ليصعد إلى الحافلة التي تتأهب للمغادرة، يخترقُها كرسيًا بعد الآخر ينادي بنغمته المُحببة ولا يفرض نفسه على أحد: أهرام.. أخبار.. شروق..مصري اليوم، زهرة الخليج.. قطر الندى.. حد عاوز جرنان ؟ حد عاوز مجلة ياحضرات؟"
 
مساء السبت لم أجد وجه عم "رمضان" بائع الصحف بين وجوه رواد المحطة وأهلها، أخذت أتنقلُ فربما أصادفه يبيع الصحف هنا أو هناك، وأسترق السمع لعل أذناي تلتقطُ صوت ندائه المُعتاد على الصحف التي يحملها، ولكني لم أجده، سألتُ عنه عامل الحقائب، فباغتني: "عم رمضان تعيش انت!!"

تبدلت ملامحي من الحيرة إلى الحزن، ليس لمُجرد أنه وجه اعتدت أن أراه، بل لأني وجه اعتاد هو أن يراه، فعم "رمضان" هو شريكُ رحلة حياة، حيثُ عرفته لأول مرة وأنا أغادر المحطة صوب القاهرة في صيف ٢٠٠٣ طالبًا يتأهبُ بشغف لدراسة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وكنتُ أجد الأمل في ابتسامته ودعواته الصادقة وأنا أرتحل للعاصمة عقب أربع سنوات، خريجًا جامعيًا ينشدُ فرصة عمل شاغرة، ثم رأيته عاشقًا أهاتف حبيبتي حتى يأتي موعد الحافلة، ننسجُ معًا آمال حياتنا سويًا ونختارُ أسماء أبناء المستقبل، ثم زوجًا تتأبط زوجتي ذراعي لتختبئ داخلي، فأبًا يتمسكُ أطفالي بذيلي، لقد كان عم "رمضان" شاهدًا على لحظات حياتي، طرفًا أصيلًا بكل ما بها من طموحات، وإحباطات، ونجاحات، تتعاقبُ عامًا بعد العام، ورحلة بعد أخرى.
 
في رحلة من المحطة منذ عدة أشهر، طلبتُ من عم "رمضان" بائع الصحف، نُسختين لذات العدد من مجلة أطفال، نظر لي باستغراب، ولم يكن مُعتادًا على اجتياز مساحة الخصوصية لرُواد المحطة، ولكن دفعه "العشم" لسؤالي عن سر اقتناء النُسختين، فأجبته بأنه السعي لنزع فتيل الفتنة بين طفليّ، فرنا إليهما بود، وربت على رأسيهما برفق، وهو يدعو لهما بالهداية والحفظ من الشر، ثم انسحب في هدوء، دون أن أعلمُ أنها المرة الأخيرة التي سأرى فيها الرجل، الذي عاصر كافة فُصول حياتي، دون أن تتغير هيئته بمرور السنوات، فحركته الدؤوبة التي تناسب سن الشباب، لم تجعلني ألتفت لحقيقة أن أمامي كهلاً، يغزو الشيب ذقنه المجعدة، بينما تمتد خطوط الزمن فوق وجهه الجنوبي الأسمر الكادح.
 
غادرتُ المحطة مساء السبت، وأنا مُوقنٌ أن وجه عم "رمضان" قد توارى للأبد، وأني لن أبصره بعد اليوم بين وجوه رواد المحطة وأهلها، ومع تحرك الحافلة، رأيتُ وجهه كصورة باهتة تُطل من وراء الزجاج، ينتصبُ على رصيف المحطة شامخًا دون انحناء، وذراعه اليُسرى تتأبط كومة من الصُحف، يتطلعُ نحوي بحنو، وكأنه يوفيني حق افتقاده والسؤال عنه اليوم، يلوح لي بكفه اليُمنى، وكأنه يودعني للأبد.. رحم الله عم "رمضان" بائع الصحف.     
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط