الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من تراثنا العربي.. مع أبي جعفر الخوارزمي "١"


إن العلم حلقات متتالية، كما التطور الحضاري، فكل أمة تهتم بالعلم وتيسّر أسباب البحث العلمي لأبنائها النابغين، وباحثيها المجتهدين وعلمائها المتميزين؛ تساهم بحلقة في تلك الحلقات، وتخلق طورا من تلك الأطوار العلمية والحضارية، ويظل سهمها في هذا البناء الخالد، وذلك العمل البديع، وذاك الصرح العظيم مَبْعث فخرٍ، من أبنائها على مر العصور، ومَضْرب مثل محفز لغيرها من الأمم.

ليست هي كثيرة تلك الأمم التي شاركت بسهم كبير في الحضارة الإنسانية، وشيدت درجات في سُلّم العلم؛ وإن كانت المسيرة العلمية تذكر الحضارات الفرعونية واليونانية والسومرية والبابلية وكذلك الحضارة الفارسية، بكثير من الاعزاز، فإنها تذكر بكل فخر الحضارة العربية الإسلامية بما قدمته هي الأخرى وما أسهمت به.

إن هذا السهم الذي شاركت به الحضارة العربية الإسلامية لم يكن ليحدث إلا إذا كان هناك اهتمام بالعلم والعلماء من قبل الخلفاء، حيث أن هذا الاهتمام يمثل قرارا سياسيا سياديا؛ هذا الذي يوفر - كما قلنا آنفا – البيئة الملائمة للعقول الفذة للعمل والانطلاق في آفاق رحيبة في ساحات العلم، ولعل أفضل مثال على ذلك يتجلى في موقف الخليفة هارون الرشيد حينما حقق نصرا كبيرا على الروم في آسيا الصغرى وأسر منهم العدد الكبير؛ وحينها أراد إمبراطور الروم أن يفتدي هؤلاء الأسرى بالذهب والفضة ولكن الخليفة هارون الرشيد رفض ذلك وطلب أن يكون الفداء كتبا يونانية لا توجد إلا في مكتبة الإمبراطور، ووافق الأخير فأرسل هارون علماءَ المسلمين الذين يجيدون اللغة اللاتينية فمكثوا في مكتبة الإمبراطور ثلاث سنوات ينقلون نسخا مما بها من تراث اليونان في مختلف العلوم حاملينها معهم إلى بغداد عاصمة العلم في الدنيا كلها آنذاك، وكان من بين تلك المنسوخات كتبا في الرياضيات، أشرف على ترجمتها إلى العربية أبو جعفر الخوارزمي الذي شجع المترجمين تشجيعا هائلا، والذي -نتيجة لهذا الإشراف - تعلم لاحقا اللغة اليونانية القديمة.

هذا الموقف يعكس الاهتمام الهائل من قِبل الرشيد بالعلم، والذي لولاه لم نكن ليشهد التاريخ العلمي عقلية مثل عقلية أبي جعفر الخوارزمي، مؤسس علم الجبر، وأحد أهم العقول في التاريخ البشري في الرياضيات، والذي يعتبر مساهما في تلك النقلة الهائلة التي نشهدها في عالم اليوم في كافة العلوم بداية من صناعة صواريخ الفضاء، والمركبات الفضائية إلى الحواسب والألواح إليكترونية والهواتف الذكية، فلقد كان له الفضل في ابتكار "الصفر" والذي هو عند الخوارزمي رقم يوضع على يمين العدد فقط ولا قيمة له على يساره، وجعل منه قيمة عددية رياضية. والذي بدونه لم يكن لعلم الرياضيات الذي هو "أبو العلوم" أن يخطو خطوات متقدمة، ولم تكن العلوم التي تعتمد جميعها على علم الرياضيات أن تمنح الإنسانية كل هذه الاختراعات وكل تلك المبتكرات التي تميز عالم اليوم.

ولم يكن الخلفاء والحكام يهتمون بالعلم والعلماء في قاعات البحث والدرس فقط بل كانوا ينصبونهم المناصب الهامة ويعتمدون عليهم اعتمادا كبيرا في الكثير من الأمور، وكانت هناك علاقات قوية تربط النابغين في العلم والخلفاء في مجالسهم، فيناقشونهم في العديد من الأمور وينزلون على رأيهم في الكثير من الأحداث، كما نجد في تلك العلاقة التي جمعت الخوارزمي مع الخليفة هارون الرشيد الذي كان اهتمامه بالعلم لا يخفى على أحد، كما استمرت تلك العلاقة بين الخوارزمي والخليفة المأمون الذي كان أكثر شغفا بالعلم والعلماء من أبيه. والذي جعل الخوارزميّ من أهمّ علماء بيت الحكمة، حيث اعتَمَد عليه الخليفة المأمون في تأليف كتابٍ في عِلم الجَبر، فوَضَع كتاب (المُختصَر في حساب الجَبر والمُقابلة)، وتَضمَّن هذا الكتاب عِلم الجَبر، فكان أوّل من وَضَع هذا اللفظ له، ثمّ حَرَّفَ الأوروبيُّون لَفْظ (الجَبر)، وترجموه إلى لغاتٍ عِدَّة، كما تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينيّة في عام 1135م، وظلَّ يُدرَّس في الجامعات الأوروبيَّة حتى القرن السادس عشر الميلاديّ.
حينما نقف بين يدي أبي جعفر الخوارزمي لا يمكننا إلا أن ننظر بعين متأملة لما قام به كل من الخوارزمي والخليفة المأمون الذي اصطحب العالم الرياضي معه في تفقد أسرى الروم من معركة كانت دارت بين قوات المسلمين وقوات الروم والتي انتصر فيها المسلمون، وأسروا عددا كبيرا منهم؛ والذين كان من بينهم مهندس التقاه الخوارزمي أثناء اصطحابه الخليفة؛ ليتناقش الخوارزمي مع هذا المهندس الرومي في بعض المسائل الهندسية؛ ويعجب بما لديه من علم؛ ليسأله عمن علمه ذلك العلم الذي لا يعرفه الأغلبية من المشتغلين بالرياضيات، ليخبره أن عالما يسمى "ليو" يعيش حياة بائسة في إحدى بلاد الروم؛ هو من قام بتعليمه، وهنا يتدخل الخليفة المأمون فيرسل لإمبراطور الروم الخوارزمي برسالة يطلب منه فيها أن يحل هذا العالم ليعيش بين علمائه: يعلمهم ويتعلم منهم، فيأمر إمبراطور الروم بالبحث عن ذلك العالم؛ الذي وجدوه بعد عناء بحث؛ ويعرض عليه الإمبراطور العرض الذي قدمه خليفة المسلمين؛ فيرفض أن يغادر بلاده، وهنا يزداد قدره في عين الإمبراطور؛ الذي أمره بالتعاون في الدرس والبحث مع الخوارزمي؛ بل طلب منه أن يمنحه كل ما يعرفه من العلم، وأن تستمر العلاقات بينهما من خلال الرسائل ليتعاون العالمان فيما البحث.

هذا الموقف إنما يعكس العديد من المعاني، والكثير من الدلالات؛ يأتي على رأسها ذلك الاهتمام الهائل من رأس الدولة الإسلامية في ذلك العصر بالعلم والعلماء في أي مكان حتى عند الأعداء، ثم حرص الخليفة الإسلامي على تكريم العلماء مهما كانت جنسيتهم أو عقيدتهم، كما يعكس انتماء العالم الروماني إلى وطنه، وأنه على الرغم مما لاقاه من إهمال وتهميش رفض أن يغادر وطنه ليعيش الحياة الرغدة في بغداد عاصمة العالم آنذاك، بالإضافة إلى حرص عالم بحجم الخوارزمي على طلب العلم والاستفادة مهما كان مصدر هذا العلم، ومهما لاقى من مشقة، كما حدث مع قائد الزظ.. في ذلك الموقف الرهيب الذي نتناوله في مقالٍ لاحق.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط