اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- زوجات النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بمنزلة رفيعة، ومكانة عظيمة من بين نساء المؤمنين، وفي ذلك قال الله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)؛ وذلك لقُربِهنَّ من الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، نظرًا لفضلهنَّ وخدمتهنَّ للإسلام، ونُصرتهنَّ للدعوة الإسلاميَّة، واتِّصافهنَّ بصفات جليلة، وتحليهنَّ بمناقب جميلة جعلت منهنَّ قدوةً وأسوةً حسنةً لنساء المسلمين من بعدهم؛ لذا عرَّفهم القرآن الكريم بأنَّهنَّ أُمّهات المؤمنين، وقد قال الله تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)، ومن بين أمَّهات المؤمنين، وأجلِّهنَّ مكانةً وأكثرهنَّ قدرًا أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنهما.
تختلفُ نظرة أكبر طائفتين إسلاميتين إلى عائشة اختلافًا ملحوظًا، فبينما يجُلَّها أهلُ السُنَّة ويُحيطونها بالحفاوة والتكريم، ينتقدها الشيعة الاثنا عشريّة انتقادًا كبيرًا يصلُ عند طائفةٍ واسعة منهم إلى حد اللعن والتبرؤ والسب، ويتهمونها بعداء أهل البيت وبتسميم الرسول مُحمَّد، وكان هذا التباين الواسع في النظرة سببًا رئيسيًا في توسيع الهوَّة بين أهل السُنَّة والشيعة الاثنا عشريَّة، وعُنصرًا محوريًا في الخلاف السُني الشيعي، وقد حاول بعضُ العلماء الشيعة القضاء على الفتنة، فأصدروا العديد من الفتاوى الشرعيَّة التي تُحرّم سب عائشة والصَّحابة أو التعرُّض لها بأي شكلٍ مُهين، مُعتبرين أنَّ ذلك إهانة لِشرف الرسول مُحمَّد وخدمة لأعداء الإسلام.
نسَب أمّ المؤمنين عائشة
هي أمُّ المؤمنين عائشة بنت الخليفة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنهما، خليفة رسول الله الأوّل، وهو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميميّ، وأمُّها هي أمُّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة الكنانيّة.
زواج السيدة عائشة بالنبيّ
قبل الهجرة بسنتين وبعد وفاة خديجة بنت خويلد، جاءت خولة بنت حكيم إلى النبي محمد تسأله أن يتزوج، فسألها: «وَمَن؟»، قالت: «إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا»، فقال: «وَمَنِ البِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّب؟» فذكرت له البكر عائشة والثيب سودة بنت زمعة، فقال: «فَاذْكُرِيْهِمَا عَلَيّ.» فذهبت خولة إلى أم رومان بنت عامر أم عائشة، وذكرت لها الأمر، فقالت: «اِنْتَظِرِي فَإِنَّ أَبَا بَكْرَ آتٍ». وكان المطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، فأتى أبو بكر المطعم، فقال: «مَا تَقُوْلُ فِي أَمْرِ هَذِهِ الجَارِيَةِ؟» فسأل المطعم زوجته، فقالت لأبي بكر: «لَعَلَّنَا إِن أَنْكَحْنَا هَذَا الفَتَى إِلَيْكَ تُصِيْبَهُ وَتُدخِلَهُ فِي دِيْنِكَ الَذي أَنتَ عَلَيْهِ»، فرأى أبو بكر في ذلك إبراءً لذمته من خطبة المطعم لعائشة، وقال لخولة: «قُولِي لِرَسُولِ الله فَلْيَأْتِ»، فجاء النبي محمد وخطبها.
هاجرت عائشة إلى المدينة بعد هجرة النبي محمد بصحبة طلحة بن عبيد الله وأخيها عبد الله وأمها أم رومان وأختها أسماء، وزيد بن حارثة وأبي رافع مولى النبي محمد وابنتي النبي محمد أم كلثوم وفاطمة وسودة بنت زمعة وأم أيمن وابنهاأسامة بن زيد. وبنى النبي محمد بعائشة بعد غزوة بدر في شوال 2 هـ، فكانت عائشة تقول: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولَ اللَّه كَانَت أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي» وتروي عائشة قصة يوم زواجها، قائلة: «قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوُعِكْتُ شَهْرًا فَوَفَى شَعْرِي جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا وَمَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي فَأَوْقَفَتْنِي عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ هَهْ هَهْ حَتَّى ذَهَبَ نَفَسِي فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَغَسَلْنَ رَأْسِي وَأَصْلَحْنَنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ ضُحًى فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ». وقد وصفت عائشة جهاز حجرتها فقالت: «قَالَتْ:إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ».
وتروي عائشة حديثًا عن النبي محمد أنه رأى في منامه جبريل، وقد جاء بها في ثوب من حرير، وقال له: «هَذِهِ امْرَأَتِك»، فرد النبي بقوله: «إنْ يَكُن هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمضِهِ»، وفي حديث آخر أن جبريل قال: «هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُنيَا وَالآخِرَة».
عِلم عائشة بنت أبي بكر
بلغت السيدة عائشة -رضي الله عنها- مرتبةً رفيعةً في العلم، فكانت من أفقه نساء المسلمين وأكثرهنَّ علمًا، فقد كانت من المُكثرين لرواية الحديث، وروى عنها كذلك كثير من كبار التابعين.
جهاد عائشة رضي الله عنها
شاركت السيدة عائشة في بعض الغزوات كغيرها من أمّهات المؤمنين والصحابيّات رضي الله عنهنَّ، ففي غزوة أُحُد شاركت عائشة -رضي الله عنها- في ملء قِرَب الماء لجنود جيش المسلمين،وقد حدَّث أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن ذلك، فقال: (ولقد رأيتُ عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ وأمَّ سُلَيمٍ، وإنّهما لمُشَمِّرَتانِ، أرَى خَدَمَ سوقِهما، تُنْقِزَانِ القِرَبَ على مُتُونِهما، تُفرِغانِه في أفواهِ القومِ، ثمّ تَرجِعانِ فتَملآنِها، ثمّ تَجيئانِ فتُفرِغانِه في أفواهِ القومِ).
مواقف من سيرة السيّدة عائشة
زخرت حياة السيدة عائشة -رضي الله عنها- وحفلت أيّامها بعدّة مواقف بارزة، كانت فيها خير مثَل للسَّلف الصّالح المؤمن، وأحسن قدوة للتابعين من بعدها نساءً ورجالًا، ولعلَّ من أبرز هذه المواقف ما يأتي:
حادثة الإفك هي حادثة من أعظم وأصعب الحوادث التي مرَّت بها أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث إنَّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كان إذا همَّ بالخروج إلى غزوة من غزواته أجرى قرعةً بين زوجاته ليُحدِّد زوجةً واحدةً تُرافقه في الخروج إلى تلك الغزوة، وفي إحدى غزواته رسَت القرعة على عائشة -رضي الله عنها- وكان ذلك بعد نزول آيات الحِجاب، فكانت عائشة -رضي الله عنها- مُحتجِبةً، وحُمِلت في طريق السَّير على هودجها، وبعد أن أنجز النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ما خرج لأجله، عاد ومن معه من المسلمين إلى المدينة المنوّرة، وأناخوا الرَّكب في طريق عودتهم للرّاحة، واختلت السيّدة عائشة -رضي الله عنها- لقضاء بعض شأنها، فلمَّا انتهت وعادت إلى مكان المسلمين، تفقَّدت عُنُقها فإذا بها قد فقدت قلادةً لها كانت ترتديها، فعادت إلى حيث كانت لتلتمسها، وحمل الرِّجال هودجها وسارت القافلة دون أن يشعروا بأنَّ عائشة -رضي الله عنها- ليست في هودجها، فقد كانت حديثة السِّن خفيفة الوزن، فلمَّا عادت إلى الموضع الذي أناخ فيه المسملون لم تجدهم، فجلست في مكانها حتّى يعودوا إلى أخذها، ثمّ غلبها النُّعاس فنامت، فكان من وراء الجيش الصحابيّ صفوان بن المعطل السلميّ، فشَهِد خيال إنسان فاقترب فإذا هي السيدة عائشة، فأناخ لها راحلتَه فركِبت دون أن يكلِّمها أو تكلّمه.وعندما وصل صفوان وعائشة إلى المدينة المنوَّرة أشاع زعيم المُنافِقين عبد الله بن أبي سلول شائعةً تمسُّ شرف السيّدة عائشة رضي الله عنها، وشاعت كذبته على الألسُن، وبلغ ذلك الرّسولَ -صلّى الله عليه وسلّم- ولكن لم يصل ذلك إلى السيِّدة عائشة، حيث كانت مريضةً، فلمَّا صحَّ جسدها وخرجت برفقة أمّ مسطح، فتعثّرت أمّ مسطح أثناء سيرها في الطريق، فقالت: (تَعِس مسطح)، فنهرَتها السيدة عائشة وتعجَّبت من قولها، فأجابتها أمّ مسطح: (أوَلَم تسمعي ما قال؟)، فأخبرتها أنَّه من جُملة مَن يتحدَّث بالإفك عنها، فعَلِمت عائشة -رضي الله عنها- بالخبر، وحزِنت وزاد مرضُها، وكان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لا يُكلِّمها ولا يتحدَّث معها، فاستأذنت منه أن تذهب إلى بيت أمّها وأبيها، فذهبت واستمرَّ مرضها وتواصل بكاؤها، وفوّضت أمرها إلى الله أن يبرِئها ممَّا يُشاع عنها، وبقيت عند أهلها حتّى نزلت براءتُها من الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فأثبت الله براءتها من حادثة الإفك، وأقرَّ عينها بذلك.
حادثة الفِتنة كان لأمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- موقف جليل من الفِتنة التي حدثت بين الصّحابة بعد وفاة عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- وتولّي عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- الخلافة، فقد ارتأت وجوب القَصاص من قتَلة عثمان رضي الله عنه، والتزمت بيتها بعد واقعة الجمل، ولم تُشارك إلّا في المشورة والنُّصح، وأشهر ما جاء من نُصحِها ما وجَّهته إلى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- حين سألها نُصحَها وطلب منها أن توصيه، فقالت له: (سلامٌ عليكَ، أمَّا بعدُ، فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقول: منِ التمَسَ رِضا اللهِ بسخطِ النَّاسِ كفاهُ اللهُ مَؤونةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللهِ وَكَّلََهُ اللهُ إلى النَّاسِ، والسَّلامُ عليكَ).