الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العظيمان!


الاستمتاع بالقراءة درجات .. والكتاب الذى يحصل على الدرجة النهائية عادة ما يكون لذى قلم ساحر يجمع بين عمق الثقافة ورشاقة الأسلوب .. وحينما يقرر كاتب فى وزن وتاريخ رجاء النقاش الكتابة عن مشوار أسطورة العرب فى الأدب نجيب محفوظ لابد وأن يثمر الاتفاق عن إنتاج ثقافى نادر وشديد التميز!.

وروعة "النقاش" تتجلى فى اختفاء سطوره وموهبته فى الصياغة والتعبير وراء كلمات "محفوظ" تاركا الأخير يسرد فى عذوبة وسلاسة قصة حياته ومواقفه الغزيرة بالمعلومات والوقائع .. فكان من الممكن أن يكتفى أديب "نوبل" بكتابة مذكراته بنفسه دون الاستعانة بصديق أو عين أخرى على الأحداث، ولكنها اللقطة الذكية عندما رسم "النقاش" سيناريو محدد المشاهد ومرسوم الخطوات لشريط ذكريات "محفوظ" بشرط أن يرويها الأديب ذاته .. بلسانه .. وقلمه .. وينسج خيوط الفصول بمنطق الرواية لنعيش فى كل فصل من فصول الكتاب حالة خاصة بكل تفاصيلها وتشابك أبطالها ومفردات شخوصها ..

 ولا نقرأ لـ "النقاش" سوى ملخص كل فصل على حدة ثم مقدمة موجزة ومكثفة لما سيقوله الأديب العالمى فى الصفحات التالية، لنسبح معه فى نهر التاريخ الفنى والسياسى، ومن روافده نستخلص القيمة والمبدأ ونتعرف بالتحديد على الاتجاهات الفكرية والسمات النفسية التى قادت بأديبنا العالمى نحو المرتبة العليا من تصنيف المثقفين ، وماهى الأدوات التى امتلكها فساهمت فى تشكيل وعيه السياسى والإنسانى وتكوين شخصيته الروائية التى امتزجت فيها الواقعية بالفلسفة التى درسها وعشق مذاهبها!.  

سار القارئ معه داخل سفينة "النقاش" المريحة منذ نعومة أظافره وتفتح عيونه على الأب الروحى سعد زغلول ثم المناضل النبيل مصطفى النحاس عند محطة "حزب الوفد" فى قطار شبابه، ومن خلال معركة الاستقلال من الاحتلال الإنجليزى نبتت بذور الموهبة الأدبية وبدأت تتخلق فى تربة وجدانه .. وغاص بنا فى سراديب المرحلة الناصرية وأعاصيرها وصولا إلى تحديات الحرب والسلام فى عهد السادات العظيم، وانتهاء برؤية سياسية مغلفة بروح الرواية المتوهجة لقضايا المنطقة القومية والعربية .. 

وتبلغ المتعة ذروتها مع منطقة "السيناريست" نجيب محفوظ الذى تفرغ كثيرا للسينما ومنحها مساحة عريضة من اهتمامه ورشاقة قلمه، فتعددت المواقف وتنوعت النماذج من حوله .. وكيف تولى جهاز الرقابة على المصنفات الفنية وصاغ علاقته بالزملاء والسلطة من خلال "مقص" الرقيب ومقتضيات الوظيفة الحكومية التى قد تصطدم بخيال الفنان أو آراء الأديب .. وعشنا أحلى الأوقات مع نخبة من الأدباء والمبدعين فى حقبة الستينات الزاخرة بالأعلام ورموز الصحافة والفكر والفن، وفى ظل الزخم الثقافى عرفنا لماذا ذهبت "نوبل" إلى أيدى "محفوظ" ليقفز أميالا متقدما على رفاقه وأبناء جيله!.

وداخل كل مشهد يرويه "محفوظ" بريشة القبطان "النقاش" عشرات الدلالات والأفكار .. والمعانى والرسائل تتدفق من بين الكلمات التى تصدر عن الكاتب كما لو كان يتنفسها كالأوكسجين  ليتضاعف الانبهار بالقدرة المذهلة على السرد والانتقال السلس من فكرة لأخرى دون ذرة ملل واحدة أو حتى التفكير فى الانصراف عن القراءة!.

- صدقا .. كنا أمام مرجع ثقافى وتاريخى جدير بأن يكون مادة تدريس فى أقسام الأدب والفنون بالجامعات والمعاهد، ومنهجا مقررا فى كتب المدارس للمراحل التعليمية الأولى لغرس قيم الجمال والثقافة، وتأسيس جيل يعى ويدرك أهمية القراءة وعظمة الأدب ورواده فى بناء العقول ونهضة المجتمعات ..

وتستحق مثل هذه الكتب أن يُنظر إليها كمصدر شديد الثراء لإنتاج أعمال فنية ودرامية تتناول حياة وسيرة العظماء وتصنع منها تماثيل حية نستلهم عن طريقها العبر والأشياء الثمينة .. وهذه التحفة الثقافية التى قدمها لنا "النقاش" بأصابعه السحرية تضئ الطريق لمن يبحث عن المعرفة والعلم، وترشد كل من يؤمن بموهبته ويصقلها بالأفق الواسع والعطاء المستمر والتحصن بصفات التواضع والاستقامة والأخلاق الرفيعة .. ومع رحلة "النقاش ومحفوظ" نتيقن من قدرة مصر على إنجاب عظماء وخالدين نالوا نصيبهم من التفوق والشهرة والمكانة المرموقة .. وقبلهم الفخر والاحترام دائما!!. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط