الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

التلكيكة الربانية


تمر الأيام سريعة مهما ثقلت جعبتها بالأحزان أو فرغت جيوبها من الأفراح ، تلك تركيبتها الچينية أن تمُر غير عابئة بما تسقطه من بذور الفرح والقرح؛ في أرض القلوب العطشة لبهجة بعيدة ،وأحلام عنيدة وذكريات ضبابية كانت يومًا لحظات سعيدة. 

مرّ العام على مُرِه، فالحزن لم يوقف عجلاته التي ما رضخت يومًا  لتوسلات الفرح لتستبقيها فما بال الحزن قطعًا لن يبقيها. 

كان عامًا استثنائيًا بلا شك تشرق شمس يومه على حال ولا تلملم شعاعِها الى وقد تغير الى مُحال. 

هذا العام الذي حمل طعم المرض والألم وتلون بظلال الخوف والفَقْد وامتلأ بصلوات الرجاء وكلمات الرثاء، شهدت لياليه الدعوات الحارة ، وذُكرت في صباحاته أحاديث عن وجوهٍ مارة ؛ولكنها لم تعد بيننا بسبب ما شهدناه من ظروفٍ غير سارة. 

احتل هذا العام دون منازع لقب عام العِظة ، فربما قد مرت العديد من السنوات الصعبة في تاريخ البشرية لكن هناك بعض الأعوام القاسية لأنها تغير ما يليها في ملامح الإنسانية، فهي كالفأس الذي يهوي بقوة على مصائرنا فنصبح فِتاتًا يسهل على القدر صهره وإعادة صقله، وذلك لحكمة سماوية عجز عن فهمها قاطني الكرة الأرضية!

البعض أولّ  ما يحدث بأنه غضب آلهي ينصب فوق رؤوس الأنام، بينما أكّدَ آخرون بأنها علامات النهاية والاستبدال ، فلقد غرقت البشرية  في جُب المعاصي فلتذهب ويأتي الله بقومٍ غيرها! متناسين أن الله لو شاء لخلقنا منذ البداية عابدين تائبين موحدين ومنيبين ! 

بينما تمسَك القليل بأن ما حدث لم يكن إلا نفحات الرحمة الربانية. 

وأظن أنني ما فارقني تمسكي بهذا اليقين منذ ظهور  ( COVID-19 ) ، فإذا كان الأمر " عقاب دنيوي " فالتبعات الاقتصادية للوباء نزلت على أكثر الناس ضعفًا وإن تعالى أنينها في العالم أجمع ،إلا أن صرخاتها كانت حِكرًا على الأكثر عوزًا ، هؤلاء الذين نصِفُهم بأنهم على ( باب الله) فكيف لله أن يغلق بابه في وجه الضعفاء والمساكين ، إنه رب كريم، ما أراد بهم إلا خيرًا ولو عصي التسليم على عقولِنا فلن يَشُق على قلوبِنا الاستسلام لأمره. 

أما إذا كان الأمر " تهذيب أخلاقي " فعذرًا لسؤالي ( وهل تأدبنا؟) ألم يزِد حقد الحاقدين ، وتمَادى ظلم الظالمين، ولازال بيننا قتلة ومغتصبون وفي كل مكان يرتع الفاسدون وتحت أرجلهم يجثو المنافون! 

بينما لم يزل الصابرون على صبرهم ، والمحتسبون لم يكفوا دعواتهم ، والطيبون كما هم على عهدهم ! بالعكس أوجد الابتلاء مافيا جديدة لتجار الصحة ومستغلي الأزمة ، فبين افتراء المستشفيات وطمع الأصحاء للاستئثار بالدواء فارقنا الكثير من الشهداء، ولم نرَ هذا العجب على مستوي الأشخاص فقط بل حتي الدول والتاريخ شاهد! إذن فأين الأدب ؟ ودون الحاجة لمراجعة أحوال العباد والبلاد يكفي أن تسأل نفسك هل تغيرت يا أنا؟ .

ستدهشك الإجابة بأننا ذات الأنا لم يمسسنا إلا المزيد من الشكوى والبؤس والشقاء إلا من رحِمَ ربي مِنا … إذًا أين حكمة الابتلاء؟ بين ليلة وضحاها نزل الوباء زلزل حياتنا ،غَيَرَ عادتنا وقطعنا عن أرحامنا ،رأينا بأعيننا اليوم الذي يفر المرء فيه من أبيه وأمه وأخيه ، سمعنا بأذاننا كُل راعٍ يصرخ نفسي نفسي ، دون الحاجة للقيامة الكبرى إنما لأصغر خلية حية على وجه البرية، فكم نحن ضعفاء يا الله أيقنا أننا هالكون ولكن لازلنا بفطرتنا متمسكين. 

فقوى الخير والشر في الكون متوازنة كلنا بلا استثناء نحمل النقيضين، ولكن ما يُفرِق بين العبد الصالح والطالِح هو مدى سيطرة كل منهما على القوى المُتصارعة في نفسِه، فهناك من اعتادوا صناعة الحب ولازالوا ينسجونه أينما حلوا، ومن يحترِف اشعال الحروب وما لبثوا يفتعلونها طالما برؤوسهم طلوا، فما بالك يا نفس لم يؤدبك بلاء ولم يهذبك ابتلاء! 

على مدى عام مضى لم أسطر حرفًا يتعلق بالكورونا وكيف لي أن أكتب مادمت لم أفهم ؟ لكن اليوم ومع سقوط الورقة الأخيرة لتلك السنة الفريدة ، أشعر أنني وجدت حجر راحة أتكئ عليه، وسأصرخ بعلو صوتي لتنتبهوا إليه!
اليس من الممكن أن يكون هذا الابتلاء تلكيكة ربانية ! يريد الله أن يرفع بها المبتلين درجات ويغفر للمرضي عثرات ويخفف بها عن الغافلين ذلات ، أمن الجائز ان يكون هذا عام النعمة وليس النقمة ؟ .

فربما من اختارهم الله لجواره هم عباد لن يؤهلهم عملهم الدنيوي لمراتب الشهداء والصديقين فاصطفاهم الله ليلحقهم بتلك الدرجة التي بلغوها بقلوبهم ، وذلك من باب الرحمة الإلهية! 

شغلنا الوباء عن العبادة ، والغريب في الأمر ان الهرب من الحقيقة الوحيدة في الحياة هو ما جعلنا نتعلق في جدائلها الكاذبة. 

أخذنا التفكير في الموت حد إدمان الحياة التي طالما ما سخطنا منها وتمردنا عليها، سُكرَت دور العبادة لنعلم أن الله موجود أينما وجدنا وان أعظم دار للعبادة هناك …يرقد في قلوبنا. 
 
أغلقت البيوت على سكانها فاكتشفنا كم نحن أغراب عن بعضنا ،فكانت فرصة أن نهدم الجدران النفسية التي استطالت بيننا وبين أبنائنا، شهوة البقاء لغدٍ منصف ؛أعادت ترتيب بناء المستقبل لعله يُشرق. 

فكيف لهذا الوباء أن يكون فقط محض ابتلاء! 

إنه الرحم الذي تمخض عن الف رحمة ورحمة ، وأول تلك الرحمات اننا سنتذكر الراحلين ونهنئ الناجين وندعو للمبتلين ونجتهد أن نكون شاكرين مستغفرين، فنحن على مفرقة ساعات من عامٍ جديد يحمل بين طياته قدرا نافذا بإرادة رب العالمين ،لا نملك إلا الرضوخ والقبول لمشيئة مالك الكون العظيم فهي وإن كانت محنة ستمضي ولو بعد حين أما المِنح التي تركتها لنا فهي باقية ليوم الدين، ولا يسعني إلا أن أستودعكم الله وكل عام وأنتم من الطيبين.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط