الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المنظومة الفكرية!


دائما أنا مشغول بوطني وأمتي، وأزعم أني في حالة تفكّر دائم في وطني وأعيش في بلدتي الصغيرة التي غادرتها منذ ما يزيد عن ربع قرن متخذا أوروبا مستقرا لي، أعيش بقلبي وعقلي هناك، وبعقلي وقلبي في موطني الجديد، هذا الذي يجعلني دائم المقارنة بين حال أهلي الذي غادرتهم جسديا، والأهل الذين أحيى بينهم، أتألم لما نحن فيه من واقع وأنظر بعين الغبطة لما يحيى فيه الأوروبيون من رغد العيش، ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماي مطار العاصمة النمساوية فيينا، أدركت أن هناك ما قد تم حشوه في رؤوسنا لا يمت لواقع الحال في أوروبا بسبب، ولازمتني طوال ما زاد عن ربع قرن تلك المقارنة التي ذكرت آنفا فوجدت رجحانا لكفة الأهل الذي عايشتهم طوال هذه الفترة.

إن رجحان الكفة والذي يذهب بتوازن الميزان إلى أقصى الانحراف دفعني ومازال للبحث عن الأسباب، هذا الذي بعد جهد جهيد، أظن أني وضعت اليد على شيء منها، هذا الذي يمكن أن ألخصه في جملة تحمل العديد من المعاني في طياتها وهي التباين والتفاوت ما بين المنظومتين الفكريتين السائدتين فيما بيننا وبينهم: فلدينا نحيل كل شيء للقدر؛ وإلا لا نصبح مسلمين فضلا عن مؤمنين، فكل شيء قد قدره الله، ولا يحدث في الكون إلا ما أراده خالق الكون، وأعلن أني أومن بذلك، حتى لا يتصيد متصيدٌ لفظة من هنا أو هناك ليذهب بعقله بعيدا في التفسير والتأويل، ولكن ما أراده الله هذا وما قدره، لا يمكن أن يعرفه الإنسان إلا بعد وقوعه وحدوثه، إذًا هو نوع من التسليم بقضاء الله وقدره بعد وقوعه وليس قبله، إذًا قبل هذا الوقوع على الشخص أن يدرك أن الأمر بيده هو وبفعله هو وبعمله هو وبمجهوده هو، هذا الذي يعني الجد والاجتهاد والإخلاص في العمل لتحقيق أي هدف يريده الإنسان، مؤمنا أن الأمر بيديه هو وليس بيد إنسان آخر، وأن ما يمنحه الله سبحانه وتعالى عليه هو التوفيق ليس إلا، فالله سبحانه وتعالى لن ينزل من على عرشه الذي استوى عليه ليقوم بدلا من الإنسان الذي كلفه بالسعي لتعمير الأرض، أقول لن ينزل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهو الذي بيده كل شيء، وإن أراد شيئا فإنه يقول له كن فيكون، لن ينزل ليقوم بالدور الذي كلف به الإنسان، وماذا عن الدعاء الذي نلهج به ليل نهار، والذي هو مخ العبادة؟! ونحن بشرونا نسأل: ماذا لو استجاب الله دعاء المهملين والكسالى؟! إنه تعالى شأنه سيوفق من يأخذ بالأسباب ويلبي دعاءه، ولن يمنح الكسالى المهملين أعمالهم من فضله وتوفيقه وإلا فسدت الحياة، فلو كافأ الله المهمل ومنحه ما أراد بدون عمل أو بعمل غير متقن لانفرط عقد القوانين الأرضية، واختلطت الأمور الأزلية التي وضعها الله لتسيير هذا الكون.
هذا الفهم أظنه بل أجزم أنه ما يتمتع به أهل "الفرنجة" الذين أخرجوا الله من عمل الأرض، بمعنى أكثر وضوحا، لم يعد في فهمهم دور لله فيما هو من عمل الإنسان، وهذا يتضح وضوحا شديدا في رد
لابلاس الذي وسّعَ أعمال سابقيه في مجال الرياضيات الفلكيّة في مؤلّفه المكوّن من خمسة مجلّدات (ميكانيكا الأجرام السماوية (بالفرنسية: Mécanique Céleste)‏ والذي قدمه
إلى نابليون بونابرت حيث سأله الجنرال الفرنسي الشهير أين الله هنا؟ يقصد في  هذه فرضية، إشارة لافتراض نيوتن لتدخل الله لضبط المجموعة الشمسية، فقال لابلاس: لم أحتج هذه الفرضية لنظريتي. وربما، ولا أجزم، أن يكون ذلك هو ما قصده فيلسوف المطرقة "نيتشه" من موت الإله!.
هذا الذي يعكس منذ متى والقوم يعتمدون على عقولهم والتجريب والبحث العلمي فقط، فأصبحوا يعتمدون على أنفسهم فقط وذواتهم فحسب فيما يخص تعمير الأرض الذي كلف الله الإنسان بتعميرها، فهم يقومون بأداء هذا الواجب كأحسن ما يكون الأداء، بل لقد ذهبوا بعيدا عن الأرض في محاولة لتعمير كواكب أخرى، هذا الذي جاء نتيجة الجد والكد والإخلاص في العمل، ويمكن أن يقفز هنا سؤال ويلح على ذهن القارئ الكريم: هل هؤلاء القوم لا يبغون توفيق الله وينشدونه؟ بل قبل هذا السؤال هناك الأهم منه: هل هؤلاء الناس يؤمنون بالله أم غير مؤمنين؟.
وهنا نجيب أن الإيمان شيء ضروري للغاية، وليس هناك شخص على وجه الأرض إلا ويلمس قلبه الإيمان، أيًا كان هذا إيمان، حيث أنه الضمانة القوية لاتزان النفس البشرية، وهناك غالبية من أبناء "الفرنجة"، كما يحلو للبعض في استخدام المسمى القديم، يؤمنون بالله ويعبدونه ويصلون له في الكنائس والبيوت، وإن كان هناك أيضا منهم الملحدون، بل أكثر من ذلك فإنهم يدعون الله أن يوفقهم فيما يأتون من عمل، وأبعد من ذلك فإنهم يحمدون الله على كل عمل ينجزونه فتجد عبارة "الحمد لله Gott sei dank" على لسان أبناء شعب النمسا، حال تم تنفيذ عمل ما ببراعة، وحال تم شفاء مريض وحال النجاة من حادث أو حادثة ما، هذا الذي نجد نقيضا له أيضا عند البعض منهم، حيث يحيل كل شيء للصدفة، وإن ردد في بعض المرات نفس التعبير "Gott sei dank".


أقول إن المنظومة الفكرية السائدة هي الدافعة لسلوك أبناء المجتمع الذي يمتلك تلك المنظومة، هذه المنظومة الفكرية لا يتم فرضها فرضا على المجتمع، بل هي نتيجة توارث أجيال كثيرة سابقة ومتعاقبة، فلو نظرنا إلى الفوارق بين المنظومتين الفكريتين بيننا وبين الغرب، واللتين كليهما إرث من أجيال سابقة مع إضافة القليل لأبناء الأجيال الحالية، حيث أن كل جيل يترك بصماته على تلك المنظومة الفكرية التي تتقبل الجديد بصعوبة هائلة ولا تمتلك منه إلا ما يتبقى من عملية عسر الهضم الشديدة المصاحبة لكل جديد. لو نظرنا للمنظومتين لأدركنا ببساطة متناهية أن المنظومة المصرية والعربية بل والإسلامية مازالت تنتمي للعصور الوسطى، فما عليك إلا أن تتناقش مع شخص ما في موضوع ما فإذا بك بعد عدة خطوات مصطدما بفكر المنظومة الدينية - لقد استمعت لمتخصص في الدين وهو عبدالله رشدي تفسيرا لواقعة شرب بول الإبل على اعتباره كان "الطب البديل" في عهد النبي وأنه أمر رهط قدموا عليه بفعل ذلك كما يقول الحديث الصحيح الذي نصه: "قدِمَ رهْطٌ من عُرينةَ وعُكْلٍ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم فاجْتَوَوُا المدينة، فشَكَوْا ذلك فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا وَسَمِنُوا"، وهذا لم يكن الطب البديل في عهد النبي، كما زعم وفسر ذلك عبدالله رشدي، بل كان هو الطب نفسه، فكلمة الطب البديل هي كلمة حديثة، تشير إلى عدد من طرق العلاج غير الناتجة والمعتمدة من علم الطب المعاصر، باعتبارها بديلا عن الطب الحالي الذي هو نتيجة للبحث والعلم، والملفت أن مشايخ الدين أو الغالبية العظمى منهم هنا، في واقعة العلاج بشرب بول الإبل، لا يقولون أنه طب نبوي، بل يخجلون أن ينسبوه للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم لا يستحون من نسبة الطب البدائي في الجزيرة العربية في عهد الرسول إليه صلى الله عليه وسلم من مثل الحجامة وتناول بعض الأعشاب.

أما المنظومة الفكرية الغربية فهي تنتمي للعصر الحديث الذي تشكل عبر ما يزيد عن نصف قرن من الزمان بدءا بإرهاصات عصر النهضة انتقالا إلى عصر ديكارت ونيوتن، وكلاهما وضع الله سبحانه وتعالى في منظومته الفكرية، كما رأينا سابقا في نظرية نيوتن، إلى عصر التنوير هذا الذي عرفه إيمانويل حينما أجاب عن سؤال ما هو التنوير؟ بقوله:" إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا." هذا الذي يمكن أن يفسر العلاقات الأسرية كما هي في الغرب، فبعد سن الرشد، فلا وصاية لأحد على أحد، هذا الذي لا يمنع المشورة والنصيحة.
هذه المنظومة الفكرية الأخيرة، لو افترضنا أنه كان من تراثها مثل هذا الحديث النبوي السابق الذكر عن "شرب بول الإبل"، ولقد كان لديها ما هو مثل هذا بل ما هو أكثر منه عدم معقولية، هذا الذي كانوا يدافعون عنه بأرواحهم ودمائهم في العصور الوسطى، ولكنهم "الآن" لم يكونوا ليترددوا في القول أن هذا كان في زمن انتهى وولى ولا يمكن بحال من الأحوال الدفاع عنه وتبريره وإطلاق الشائعات التي تبرر استمراره أو صحته، هذا الذي وجدناه لدينا، لا لشيء سوى لأننا مازلنا نعيش بالمنظومة الفكرية للعقول الوسطى التي كان الدين يفسر فيها كل شيء، هذا الذي مازلنا نجد لدينا هذيان جماعي به، فنجد من يحاول أن ينسب أية نظرية علمية أو اكتشاف طبيعي للقرآن الكريم، فيما قدمه مخادعون تحت مسمى "الإعجاز العلمي للقرآن"، فوجدنا ليًّا لعنق اللفظة القرآنية وتحميلها ما لم تتنزل له، إن عقلية العقول الوسطى تقحم الدين فيما ليس له؛ طبعا لن تعدم من يزعم أن بالدين كل شيء، وحينما تسأله في معضلة لا يجد لها حلا أو سؤالا لا يجد له إجابة سيقول لك: "أسألوا أهل الذكر"، ثم يجعل الذكر بمعنى العلم، والعلم هنا لا يقتصره على الديني كما يفعلون منذ مئات السنين، بل يطلقه على المتخصص في كافة العلوم الطبيعية والوضعية، وهل هذا يعني أن في الدين كل شيء؟! أم أن الدين وضع الأسس والقواعد العامة؟! بدليل اسألوا أهل الذكر أي أن لكل علم، بعد تحويل الذكر للعلم، أهله وعلينا أن نعود لأهل هذا العلم أو ذاك، لمعرفة ما نرغب في معرفته في تخصص ما.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط