الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: نهاية حلم الصيف

صدى البلد

صار قلبي يدق فقط ليضخ الدم، أما الحب فقد اكتفيت منه ولم يعد لي فيه رغبة، لقد ذهبت شهيتي عنه منذ سنوات عدة، ونامت الرغبة حتى إشعار آخر، وتركت أمر كل شئ يخصني بيد عقلي، أما قلبي فقد وجهت له الشكر وأحلته إلى أعمال أخرى . 
عزوف عن كل شئ وخمول بالنهار أما الليل فكان للسهر إما على أرصفة المقاهي الشعبية في مصر القديمة أو على مكتب يحمل أوراقاً أُفرغ عليها طاقة الحب الدفينة في قلب صار صدئاً منذ سنوات، هكذا كان يمرُّ يومي بسلام . 
ويمر اليوم خلف اليوم ولا شيء يتغيّر كأنها حلقة مفرغة حتى غدونا أنا والجميلة « بوليدرا » أصدقاء بالصدفة، فتغير كل شئ، وصرنا نلتقي بين الحين والأخر، لتروي لي ما تيسر عن نفسها وعملها وهواياتها، وقدرتها العجيبة على التنسيق والترتيب وخلق شىء من لا شئ، 
تعددت اللقاءات حتى أصبحتُ أعلم الكثير عن حياتها وعائلتها، حتى ذاك الشاب المتيم بحبها كان له بعضاً من النصيب في الأحاديث المتكررة بيننا، 
رغم أنها لا ترغب في الارتباط به على حد قولها،
صرتُ لها مع مرور الوقت ملجأ آمناً لا تخفي عنه من أمور حياتها إلاَّ أسرارها الخاصة، 
يمكننا الحديث في كل شئ، ولكن بالطبع هناك أشياء لا ترى بوليدرا أني أستحق معرفتها. 
وبعد لقاءات متكررة وأحاديث عدة صارت « بوليدرا » منادياً يُوقظ في قلبي الحب من جديد كل يوم، 
ومع كل لقاء بيننا كنت أشعر بشىء في صدري يتحرك كأنه جدول ماء عذب ينساب بسهولة؛ ليروي بذور العشق التي ظلت مدفونة تحت غبار الزمان المتراكم لسنوات . 
أمسيت أُحب الحديث معها حتى ولو لم يكن لدي ما أقوله، كأن حديثها رئة ثالثة،
أستمع لها في كل مرة بشغف وهي تحكي تفاصيل يومها العادي، كأنها قصص أسطورية .
يالهذا الحب الذي اقتحم حياتي فجأة، وتمكن منِّي كأننا متعانقان منذ آلاف السنين !!
هل أصارح بوليدرا ؟ 
هل أبوح بحبي لها ؟ 
قلبي وعقلي في صراع مستمر؛ للإجابة عن هذه الأسئلة حتى احتكمت لعقلي، وفضلت أن أحبها في صمت، 
لكن الصمت لم يدم طويلاً، وصار الحب بيننا كالماء والهواء، 
صار حُبُّ « بوليدرا » مصدر إلهام، أكتب فيها بلا كلل أو ملل، 
وأمست الحروف تطاوعني والكلمات تنساب في سلاسة بلا كُلفة كلما كتبت عنها. 
وكلَّما قرأت « بوليدرا » ما أكتبه كانت تشجعني، هذه وردة جميلة، وهذا قلم قيِّم، وتلك حافظة نقود، ..... 
وهذا عنااااق حار ودموع كالسيل المنهمر !! 
يالها من لحظة !!. 
لم أكن أعلم السبب الخبيء لهذه الدموع غير عشق ربما أكون قد دسسته في قلبها، لم أكن أتوقعه . 
كل شيء معها كان جميلاً، أيام ولقاءات دافئة لم أعرف مثلها من قبل،
كنت أشعر أنها تدللني كطفلٍ ولا تؤخر لي مطلباً، لا تغيب عن الحي الذي نسكنه قبل أن تحدثني، أو تترك على هاتفي رسالة طمأنة تردفها بعبارة كانت تعطيني الأمل وتُجبرني على الاعتناء بنفسي جيداً؛ لأعيش حتى نتقابل من جديد .
في كل رسالة ترسلها كانت تذيلها بـ « كن مطمئناً، سأراك عندما أعود » 
كنت دائماً أحسد نفسي عليها؛ فهي هيفاء غانية، لها نفس جميلة في جسد جميل .
وفي تلك الليلة الصيفية أخبرتني أن لديها عمل في الصباح، ربما يؤخرها عنِّي بضع ساعات، لكني سأظل بلا شك في قلبها. 
هي بالفعل ساعات لا أكثر قضتها بعيداً عنِّي في رحلة عملٍ قصيرةٍ، 
لكنها مرَّت كالدَّهر، حتى عادت الجميلة « بوليدرا » في المساء إلى نفس المكان الذي شهد أول لقاء بيننا، واعتدنا بعده أن نتلاقى على نفس الطاولة بمقهى ترومبيتا القريب من محطة قطارات العاصمة الإيطالية روما .  
كانت « بوليدرا » في تلك الليلة الصيفية تحمل بين كفيها الرقيقين باقة زهور،
ثم طَرَقتْ برفق ذاك الحائط الزجاجي الذي كنت أجلس خلفه أحتسي قهوتي في انتظارها، فالتفتتُ يميناً، لأرى على شفتيها الملساء ابتسامة حرَّكت مشاعري،
وتسارعت نبضات قلبي لما أشارت إليَّ بأصابع مضيئة كأعواد المرمر، 
أدركتُ حينها معنى شعور المُسافر الذي وجد الماء بعدما كادَ أن يقتله الظَمأ . 
دخلت بوليدرا المقهى وألقت عليَّ تحيتها الرومانسية: « مساؤك أنا يا حبيبي »
رقتها وهي تتحدث العربية أثملتني رغم أني لا أُطيق الخمور، 
وحال جمالها بيني وبين الوقوف؛ لاتباع قواعد الذوق والإتيكيت . 
لم تكتف بوليدرا بالورد الذي قدَّمته لتعبر عن حبها، فمالت عليَّ برفقٍ كغصن الرمان؛ 
لتحيط وجهي بكفين كريش النعام، وقدمت عربون المودة قبلة على خدي الأيسر، مازلت حتى الآن أشعر بها، ثم رفعت يدها تُحرك شعرها الحريري قبل الجلوس، فكشفت عن عنق بينه وبين الصدر مسيرة أعوام . 
جلسنا متقاربين، وبينما كنا نتحدث وننظر للشارع من خلف الزجاج اتخذت بوليدرا من ساعدي الأيمن لها متكئاً، وصار كتفي لها وسادة تُريح عليها رأسها من عناء السفر وساعات العمل. 
ياله من شعور رائع عندما اقتربت مني أكثر فأكثر حتى صِرتُ أشعر بدقات قلبها تنبض في صدري كأننا جسد واحد وروح واحدة . 
طال معها الحديث لساعة أو يزيد قليلاً، ولكن حديث العيون كان منه أطول بكثير،
كنت بجوارها أذوب عشقاً، لا أشم إلاّ ريحها ولا يأثرني سوى عطرها الهادئ، 
رغم أنها كانت تداعب أنفي بوردتها الحمراء . 
يوم جميل ولقاء أجمل . 
ولكنها ما لبثت كثيراً حتى استأذنت بالانصراف وقالت أحتاج لبضع ساعات من النوم ثم نلتقي غداً،
« أراك لاحقاً يا حبيبي »، 
ولكن غداً الذي انتظرْته بلا نومٍ مازال عني بعيداً، .... 
لم يأتي بعد !!. 
لم تأتِ بوليدرا إلى المقهى مذ غادرناه سوياً في تلك الليلة، 
بحثت عنها في كل مكان لكنها رحلت دون أن تترك لي طريقاً أسلكه إليها، 
فرضت سياجاً من العزلة وحصَّنت نافذتها التي كنت أُطل عليها من خلالها كل صباح دون أن تترك رسالة، أو تبدي الأسباب، وصار هاتفها عليَّ محرماً،
مزقت بوليدرا الرقيقة أوتار الوصل وتركت خيوطه مهترئة، لتُنهى بيدها حلم الصيف مبكراً و بلا داعٍ !!. 
تساءلت يوم سقط أمام عيني أجمل حلم وانفرط عقد أمنياتي في بحر عميق وحل اليأس محلها إن كانت هذه هي النهاية الطبيعية التي أغمضت عيني عنها مع أول لقاء، أم أن شيئاً حدث فجأة جعلها ترحل في صمت؟! 
ترى ما الذي أعان تلك الأيادي الناعمة على حمل الفأس وهدم المعبد؟! 
ما الذي دعاها فجأة لتحطيم الجسر الذي كان يربط بيننا؟! 
حقيقة لا أعفي ذاك الخوف اللعين من ارتكاب تلك الجريمة؛
أظنها خافت من كلمة قيلت عندما كنا نتسامر، و ما قصدتُ من ورائها إلاّ طمأنتها، 
نعم إنه الخوف الذي صوب السهم بدقة ليصيب القلب وينهي حلم الصيف . 
يالها من نهاية قاسية، كنت أفضل أن تكون النهاية طلقة في الرأس، لا طعنة في القلب الذي تسكنه بوليدرا . 
ياله من قدر؛ 
كنت أدرك أنّ أصابع الزمن لن تمهلنا كثيراً، ولن تتركنا ننعم بهذا الحب إلاّ قليلاً، 
كنت أراها تتحرك بمكرٍ، تحمل بندقيتها وتستعد بلا رحمة لإطلاق الرصاص، 
فانشغلتُ بحياكة درع من الثقة والأمان يحمي بوليدرا من بعدي، 
ونسيت أن أُُعِدَّ لقلبي ترياقاً؛ يخفف عنه بعض آلام الفراق، أو أحفر لمشاعري التي ماتت بعدها قبراً . 
كنت أعلم أنني سأعاني فراقها في يوم من الأيام، لكن عقلي لم يتصور لحظة أنها ستقتلني قبل أن تغادر . 
لماذا تحرمني فرصة النظر إليها في لحظة الوداع ؟!
لم أكن لأُثقل عليها كثيراً في العتاب أو أُحمِّلها ما لا تطيق . 
قُضي الأمر، وسأرضى رغم حزني بحكم القدر الذي اصطفاني من بين العاشقين ليلعب معي لعبته؛ فلم أكن مخيراً فيما جرى، 
ولن أتمنى لبوليدرا أقل من سعادةٍ تغمرها بحجم السماء وهناءً بحجم الأرض،
لا أقولها رياءً ولكن لأني أعلم جيداً أنه كلَّما مرَّ في سرورها يوم أسعدني، و مرَّ مثل هذا اليوم أيضاً من بلائي في البعد عنها .
لن أرضى لها بغير السرور، ولكن أردت فقط أن تكون النهاية أفضل من ذلك، 
أن تبقى نافذتها مفتوحة أمامي، ولن أمرر رسائلي أو أختلس منها النظر، 
فقط أحتاجها مفتوحة لأعلم أنها مازالت بخير . 
هذه كانت رسالتي إليها، ولَكَم تمنيت أن تقرأها ليستريح قلبها، وتعلم أني مازلت بخير رغم حجم الألم  الذي خلَّفته في صدري . 
كوني آمنة مطمئنة يا بوليدرا؛ سأجمع حطامي وأُعيد ترميم نفسي رغم ما لحق بها من دمار .