معارك عديدة خاضها الملحن الراحل زكريا أحمد (6 يناير 1896 - 14 فبراير 1961)، كان صامدا في مواجهة كل شيء، برغم ما يخفيه من أحزان قاتلة، كان أبرزها انتحار ابنه واختفاء الابن الثاني ووفاة الثالث، وباتت كل المحاولات فاشلة في إخراجه من حزنه عدا الموسيقى والتلحين، يمسك العود بيديه وتنهمر دموعه التي لا تتوقف، وكان الحزن والشجن وسيلته لتقديم لحن لن يتكرر.
استعان الكاتب الراحل مكاوي سعيد، في كتابه "القاهرة وما فيها حكايات، أمكنة، أزمنة" بمقال الكاتب الراحل صالح جودت، ويحمل عنوان "عشت في عصر زكريا" الذي نشره بعد وفاته واصفا فيه مواقف من علاقتهما التي تخطى عمرها الـ 30 عاما.
بدأت صداقتهما في أروقة الإذاعة المصرية، وكان الشيخ زكريا دارسا للفقه ومرتلا للقرآن، وعلى حد وصف جودت "يأخذ نصيبه من الدنيا دون أن ينسى الآخرة في أي لحظة".
انتحار يعقوب واختفاء إحسان
كذلك كان الشيخ زكريا أديبا يقرأ الكتب والدواوين، ويسطر أبياتا في الشعر والزجل، وكانت واحدة من اهم صفاته هي النكت والنوادر، ويقول: "كنت تسمع منه النكتة للمرة المائة فتضحك في كل مرة كأنك لم تسمعها من قبل".
كشف جودت عن العديد من المواقف النادرة، من بينها قصة وفاة ابنيه، الاول منتحرا والثاني لم يعرف أحد مصيره، وقال إنه حين عاد من أوروبا وسأل عن الشيخ زكريا أحمد، قال أحدهم له: "كان الله في عونه، لقد انتحر ابنه - يعقوب- ومات واختفى ابنه الآخر - إحسان - فلا يعرف مصيره أحد".
تحرك صالح مسرعا إلى بيت زكريا أحمد، بالقرب من العتبة الخضراء، لتعزيته ومواساته، وتفاجأ بأنه كان يحمل العود لينسى عليه أحزانه، ثم توقف وروى نكتة عن أصحابه، كانت هذه وسيلته للهرب من أحزانه حتى الصباح.
صدمات متلاحقة
محاولات شيخ الملحنين للهروب من الواقع، أثارت دهشة صالح جودت، حتى أنه ظن أن خبر انتحار ابنه يعقوب واختفاء ابنه الآخر إحسان كذب، حتى أكد احد الموجودين له أن هذه الأخبار حقيقية، وقال: "أنت لا تعرف إيمان الشيخ، إن في قلبه إيمان الأولياء".
توالت الصدمات برحيل ابنه الثالث محمد بعد وفاة شقيقيه بفترة قصيرة، ويقال إن ابنه الثالث "محمد" توفي لشدة الحزن على شقيقيه، إذ كظم حزنه في قلبه ولم يذرف دمعة واحدة من شدة حزنه وصدمته في رحيلهما.
غياب نصيبه من رزق الدنيا "البنين" أثار تعاطف كل أصدقائه ومعارفه وكل من يسمع هذه القصة المأساوية، ومن بينهم ام كلثوم التي زارته لتواسيه وخشيت ان تؤثر هذه الصدمات على حالته النفسية، ولكنها تيقنت ان الزيارة وحدها لا تكفي، بل هو بحاجة إلى صديق مقرب قادر على انتشاله من الأحزان.
صديق العمر
وبالفعل تواصلت أم كلثوم مع صديقه المقرب الشاعر بيرم التونسي، وكان حينها في الإسكندرية، ولم يعلم بما حدث، وبعد عودته إلى القاهرة كان قد مر على وفاة محمد ثلاثة أيام، وبعد دخوله لم يشعر به زكريا.
فكر بيرم سريعا في طريقة يخرجه بها من أحزانه، واتضح أنها عن طريق الموسيقى والشعر، وأسمعه قصيدة "الأولة في الغرام"، وحين وصل بيرم إلى المقطع الذي فيه "حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي وأقول يا عين،، يا عيني اسعفيني وبالدمع جودي"، انهمر الشيخ زكريا في البكاء ثم امسك عوده، وظل يبكي هو وبيرم، ثم يدندنان، واستمرا هكذا لمدة يومين حتى اكتمل اللحن، وجاء اللحن في قالب الموال من مقام الحجاز.