الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

يافرح يا هجّار

نهال علام
نهال علام

في تلك الرحلة الطويلة القصيرة لم أفقد شغفي يوماً وما تزعزع يقيني فكنت أثبته دوماً، طالما رددت أن مع العسر يسراً، وكثيراً ما تذكرت بشارة الله للصابرين، وربت على قلبي بوعده للقانتين، وعديدة هي المرات التي ربط الله فيها على عقلي مهما كانت وطأة الفقد أو الافتقاد والحنين.

آفة قلبي تعلقه، ومحنة عمري تشبثه بكل ما مضى من أفراح وليالي الطفولة المِلاح وتلك الأيام التي كان فيها اليقين الحي.. هو حي على الفلاح، حتى الأتراح لازلت أتذكرها فهي مُعلمي الأول دستور الحياة الذي يجعل كل ما فيها من وجع مباح، ومادمت على متن رحلتها فمصيرك بين يديها مُتاح.

أنظر لسنوات العُمر وأحتار، فيما مضت وكإنها كانت ومضة في ليل لم يعقبه نهار، أحياناً أشعر بأنها لم تكُن قصتي وإنني لم أسطُر بعد فصول حكايتي، وحين أعود لدنيتي أجد أن روايتي قد تعددت فصولها واختلفت اجزاؤها وقاربت نهايتها وإن لم أرضى عن أحداثها، وكم أتمنى لو حولت بعض مساراتها ولكنى تذكرت هل كنت أملك زمام اختياراتها!

أنعيش الحياة مرة! أم تعيشنا هي ألف مرة! تمارس طغيانها وتفتك بيقيننا وتمزق قلوبنا وتبالغ في إنفاق أعمارنا دون هدف، إلا أن نتأكد أنها لا تساوي عند خالقها جناح بعوضة، لذا فمن الطبيعي ألا تعني عند مخاليقها حتى سراب تلك البعوضة!

قاسية هي الحياة، جميلة بلا قلب، قبيحة لأنها لا تملك ميزان عدل، فالعدالة سماوية والبشر هم ركائز الأرض التي أفرطت في ممارسة اللا أخلاقية، ولكن هل يعني ذلك أن الخالق يترك خلقُه لمن خَلَقُه!

بالطبع لا، فلولا رحمة الله لهلكنا، ولولا عنايته لسُحقنا، ولكن ذلك هو الجزء الأصعب في الامتحان حيث يكرم المرء ولو بعد حين أو يهان في تو هذا الحين، بحسب صبره وصحيح صلده وتقبله لما هو بصدده.

في تلك الرحلة العنيدة ستقابل العديد من الأمور العجيبة والأشخاص ذوي التركيبات النفسية الغريبة، سيختل ميزان فهمك مرات ستتمنى لو لم تأتي فيها ساعات، وتدعو مخلصاً أن تتركها للحظات، ولكن ستنشلك من عجزك بعض معجزات وستنقلك من صفوف المستسلمين لكتيبة المقاتلين ضي حفنة الأمنيات، التي زرعها قلبك على مرّ سنوات وأصابها وابلاً لن تفهم كنهه إلا بأنه من الابتلاءات.

فوضوية، عبثية، مزعجة تلك الأيام التي نواجهها فُرادى، وكأن أبواب السماء سُكرت عن تلقي الدعوات، ومروءة البشر بعثرت في جنبات الطرقات، وقلبك مُثقل لا يقوى حتى على الالتفات، وعقلك قد تعطل من تلقي الضربات، صدمة تلو صدمة وعقد الأحلام ينفرط دون صحوة، فتظن أن ذلك اللؤلؤ المنثور هو اجتهادك المذكور ولكنه لم يكن إلا دمع السنين على جرحك المكدور.

ولكن من الجميل أن تتذكر أنها ستمُر، فإذا كانت سنة الحياة الانقضاء فكيف لفرض الابتلاء أن يكون من شيمه البقاء! لن تبقى إلا الذكرى وبعض حكمة ونسائم المنحة التي ستولد حتماً من رحم المحنة، وإن كانت السعادة في تلك الدار عزيزة إلا أن الانتصارات الصغيرة التي تحرزها رغماً عن أنف الحياة ستظل لذيذة، وما تلك الأيام إلا دول.. فهو الوحيد القادر أن يعزك أو يذلك وهو صاحب الحكمة، ومن له الكلمة، ولا نملك إلا الامتثال والقبول مهما بدا الأمر عصياً حد الذهول.

لاتندم على إخلاصك لحلمك طالما كان هذا الحلم مشروعاً محموداً نقياً طاهراً، وكنت تراه مشروع حياتك ورسالتك السامية وسبب مجيئك لتلك الدنيا الفانية، فنحن لا نملك غير طرف الشغف الذي نتبعه بالعمل ونعطره بالأمل ونتحايل على وعورته بأضغاث يقين، فنخلد لفراشنا آمنين لا نعلم ما تدبره لنا الأقدار فنستقبل النهار مطمئنين وإن إنتهى اليوم بنا ونحن منهارين من حقيقة أننا بالغنا في حُلم لم يكُن يوماً مقدراً لأعمارنا.

أيام.. ما الحياة إلا بعض أيام، لحظات حلوة وساعات مّرة ودقائق تشعر فيها أنك امتلكت الحياة الغّرة، ولكن عندما تدرك أن الحياة حُرة لن تقدر على ألاعيبها ولو عشت ألف مرة، دروبها لم تكن يوماً سالكة والمكتوب فيها ليس عليه سلطان إلا لصاحب الأكوان فلن تعرف لما على جبينك مالكة، فقط سلِم بالمقدور واحتضن حزنك وطمأنه فالأمر خارج قدرتك فهو قدر ومكتوب، ولو أراد الله لك غيره لطرق بابك دون إذن من الأنام، فهو الحي الذي لا ينام.

وهنا أتذكر كلمات الرائع مجدي منيب التي قام بتلحينها وغنائها العبقري أحمد منيب وإن ارتبطت في الذاكرة بصوت منير "راكب حصان من ضي والفرح راح مش جاي لكن يافرحي الجاي يوم المنى أصفى أنا وأحضن سنين عمري يطوي الحنين صبري يا فرح يا هجار إمتى تجينا الدار" ! متى؟ لا تدري لعل الله يحدث أمراً.

لا نملك من حطام الحياة إلا ما تيسر من اليقين وما تبقى من الصبر، وأضغاث أمل وبعض الصور الضبابية عن الأحلام الوردية، لذا فلنتمسك بها ونتكئ عليها حتى نخرج سالمين من تلك الرحلة المؤقتة، ولكن في تلك المرحلة لا تنسيك الليالي القاحلة أنك دوماً في معية الله الواسعة، وكلما كان جرحك أعمق كلما كان شفاؤك أعجب، وسيظل وعده الحق أن مع العسر يسر هو الدواء من كل داء، ولكن دقق في كنه العسر أليس من الممكن أن يكون هو اليسر المستتر!

نحن بشر ولسنا رُسل ولكن بما أوتينا من ضعف سنتشبث بصبر أيوب، ويقين يعقوب وسلام عيسى وتسليم مريم وبأس موسى ورحمة محمد، ولكن يا ألهي لا تؤاخذنا بما فعل الفضول فينا فستظل دوماً هناك أمنية عالقة بأن نلتقي الخضر لعلنا نُخبَر بما لم نطق عليه صبراً، ورغبة دفينة بأن تنزع عن أرواحنا ما كان سبباً في سرقة ابتسامتنا، فنحن نحاول يا الله أن نمارس الرضا رغماً عن يأسنا فرجاء لا تردنا إلا وأنت جابر صبرنا .

وبالرغم من التساؤلات الحائرة والإجابات الضائعة ستظل الحياة عالقة في قلوبنا، وأحلامنا مشتهاة كالتفاحة المحرمة، فأترك الأمر لصاحب الأمر، فلا فرح دائم ولا حزن غير زائل، ورب الكاف والنون قادر على قهر الظنون، واربت على كتفك وذكر نفسك بأن مالك المُلك قد أمرك بالصبر ( وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) فكيف تبحث عن البشر وأنت في معية ربهم! فكلها قرارات آلهية تنفذها أدواته البشرية، فلا تحزن إن الله معنا مالم نكن من الظالمين، والله غالب على أمره مادمنا من المخلصين، وليطمئن قلبك مادام ليس لها من دون الله كاشفة.