الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المنصورة الجديدة

نهال علام
نهال علام

منذ سنوات طويلة تفصل بيني وبين تلك المناقشة الغريبة والتى لم أكن طرفاً فيها ليس من باب الترفُع ولكن من درب عدم التطفل، فقد كنت صغيرة احتسي العصير وأعبث بغرتي القصيرة، ولكن الفضول الذي لا يقتل القطط ولا الأطفال كان مشاركاً في تفاصيل الحوار المثيرة في جلسة عائلية أثيرة تطرق فيها والداى والأقارب لما أسموه بالمدن الجديدة.

وما بين مؤيد يستند على الرؤية المستقبلية والأهمية الاقتصادية والأبعاد الاجتماعية التي لم أعي معناها في تلك المرحلة العمرية، وجانب آخر يعارض ويفند حجته بالمشاعر الإنسانية وحديث الذكريات والروابط الأسرية، ويستشهد على حديثه بحكمة وجدانية أن الجنة من غير ناس لا تتدخل ولا تنداس، فما بالك بما يشبه مُدن الأشباح في الأساس!

انهيت كوب الفراولة ووضعته على المنضدة فارغاً لايشبه عقلي الذي كان يحاول جاهداً فهم ما سيؤول له هذا الحوار، والذي بدا فيه والدي متحمساً للتوسع الحضاري والتمدد العمراني فهل يعني هذا تلميحاً لرغبته في الانتقال لما وصفه عمي بالمدن الكئيبة!

كان ذلك اليوم بمثابة ميلاد شعور الرفض الذي يقاوم أي فكرة لتغيير المكان والذهاب لخارج حدود العمران التي رسمها أجداد أجدادي، ومع مرور السنوات وتبلور ملامح شخصيتي التي تعارض المسلمات، ودائماً ما تبحث عن الأسباب والأهداف والغايات، تأكد لدي اليقين بصدق وجهة نظر عمي، وبعيداً عن الامتداد الشاطئي للأسكندرية المتمثل في ماراقيا ومارينا وبعض القرى ذات الصيت والغني والبهجة، فهو أحد دروب الجنون أن نذهب لنستعمر الصحراء وننقطع عن الخدمات الأساسية والمواصلات الضرورية.

ولكن مرت السنوات وتغيرت القيادة السياسية فتبدلت الرؤى والاستراتيجيات، فللمرة الأولى نجد شبكات المواصلات وكل ما يلزم المدن من خدمات، يبدأ به المشروع قبل الأبنية وما تستلزمه من تشطيبات، على مدى عقد من الزمان ومع ثورة التكنولوجيا وما عكسته من متغيرات، سمعنا في الإعلانات عن الكومباوندات الذكية وتطبيقات الجيل الرابع الحصرية والتي كانت حكراً على من لديهم القدرات الشرائية.

ولكن اليوم نجد قرابة ٣٧ مدينة ذكية في كل ربوع الجمهورية تمنح للكل تلك المميزات العبقرية، فلا يجب أن تكون من ذوي الحسابات البنكية الخرافية لتستمتع بحق الحياة في تلك الأماكن الغير اعتيادية، فالمدن كافة بها جميع المتطلبات الاسكانية التي تراعي تفاوت الامكانيات المادية بل وتقدم تسهيلات حقيقية ، فللمرة الأولى نشهد مدن الجميع فيها سواسية، واختلاف الإمكانيات ينعكس في مساحة الوحدة أو طبيعتها.

شهدنا ذلك بوضوح في العاصمة الإدارية، والعلمين الجديدة، ولكن ربما كانت الصورة أوضح فيما يتعلق بعروس المتوسط الجديدة مدينة المنصورة السعيدة، كان يوماً مبهجاً للجميع لكل من يحب الوطن ويشعر بعظمة الإنجاز وحتمية الوصول بعد السعي على مدى السنوات والشهور، فما كان من عشرات السنين حلماً اليوم هو واقعاً وعِلماً.

فالمنصورة الجديدة هي إحدى مدن الجيل الرابع التي تم تدشينها بقرار جمهوري عام 2018، ليستمر العمل عليها في سبيل ضم هذه المدينة إلى قاطرة الثورة العمرانية لإنشاء المدن الجديدة، والتي لم تعد من باب الرفاهية لتستوعب تلك الزيادة العددية الهائلة، وذلك ما وضعته القيادة السياسية نصب أعينها ومن أبرز تحدياتها وأهم انجازاتها، بتكلفة بلغت ٢٤ مليار جنيه للمرحلة الأولى صممت المنصورة الجديدة لتستوعب مليون ونصف نسمة.

المنصورة الجديدة المولودة حديثًا إلا أن مكانتها المتفردة ضمنت لها موقعاً متميزاً كأحدى المدن الساحلية المتألقة، وسط المدن الواقعة على البحر المتوسط، مثل الإسكندرية، والعلمين الجديدة، والساحل الشمالي، فطبيعتها الجغرافية المتفاوتة بين المناطق الصحراوية ناحية الشاطئ، والمناطق الزراعية صوب الدلتا ومحافظة الدقهلية جعلتها بيئة ذات طبيعة خاصة، وأحد الشرايين التنموية الواعدة.

فهي تقع على مساحة حوالي ٦ الاف فدان تمتد من مدينة جمصة التي تبعد عنها ٦ كم فقط لتصل إلى الطريق لمحافظة كفر الشيخ، وتنقسم المشروعات بالمدينة إلى سكنية مقسمة لإسكان فاخر أبراج وفيلات وسكن اجتماعي ومتوسط، أما مشروعات البنية التحتية التي تمثل تحولاً في سياسات الدولة المصرية وأنها تدار بأفكار عالمية فهي محطة تحلية المياه التي تقوم بتحلية مياه البحر مباشرة بأحدث التقنيات الدولية كما تشهد محطة الطاقة الكهربائية بتلك الطفرة النوعية.

وأيضاً المشروعات السياحية التي تمثل وجه آخر لتلك المنطقة الحضارية، مثل الكورنيش السياحي بطول الشاطئ الذي يبلغ ١٥ كم ومارينا مخصصة لليخوت لتكون المدينة قبلة سياحية ترفيهية، ومما لاشك فيه أن الدولة لم تغفل المشروعات الخدمية المتمثلة في الكنيسة الإنجيلية والمساجد الإسلامية والمنطقة المركزية وجامعة المنصورة الذكية والمدينة الطبية.

أما الخدمات التجارية المتمثلة في ١١ منطقة تجارية وفندق فاخر، بإلإضافة إلى ٨ مولات تجارية، ومكاتب إدارية، ومحطتي وقود وصيانة سيارات، والخدمات التعليمية التي تبدأ من رياض الأطفال حيث تحتوي المدينة على ١٢ حضانة للأطفال موزعة على المدينة كما أن هناك ٧مدارس تعليم أساسي، ومدرستين ثانوية عامة بنات، ومثلهما للبنين ومدرسة ثانوي صناعي، بالإضافة لمدرستين دوليتين مخصصتان لتقديم الدبلومة الأميركية والمعادلة البريطانية.

إذا فهي الحياة التي تدب في جنبات المكان قبل أن يعمر بالسكان، وفي علم الإنسان تلك هي البيئات الجاذبة وليست دعاية كاذبة، ولذا كان حتماً علي أن أتراجع عن أفكاري البالية وإن كان ذلك التراجع ليس عن الفكرة ولكن عن كيفية التعامل مع مشاكل الناس التي تطالب بالحد الأدنى للفطرة، فكانت النتيجة مبهرة وأصبح من أمنياتي أن تتسع سنوات العمر لأنتقل من حلق ضيق الأمس لاتساع الغد في تلك المدن الخضراء الذكية البهية.

بنهاية هذا العام التي ما يفصلنا عنها إلا بعض أيام ستعلن مصر خالية من السرطان الإسكاني المتمثل في المساكن الغير آمنة والخطرة والعشوائية وتلك خطوة كلفت الدولة أرقام مليارية تقارب النصف تريليون جنيه، ولكن ما يقض مضجعي هي تلك الزيادات السكانية الخارجة عن حدود المقبول، والتي تلتهم التنمية الخضراء واليابس البائس.

فبحسب الساعة السكانية التي يعلنها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أعلنت الأسبوع الماضي زيادة قدرها ٢٥٠ ألف نسمة في ٥٦ يوم أي أننا بحاجة لمدينة جديدة كل ٢٠٠ يوم لنواجه تلك الزيادة العددية المفجعة، وإلا سنعاود أدراجنا نحو الحياة الغير كريمة التي لا تليق بمصر، فأي دولة في العالم تلك التي تتحمل موازنتها إقامة مدينتين سنوياً لاستيعاب أعداد بشرية لا طائل منها إلا المزيد من العوز والإفقار.

نحن بصدد جمهورية الحلم والأمل، جمهورية العلم والعمل كما قال السيد الرئيس فرجاء لا تبعثروا أمالنا في حياة تليق بنا وغد به متنفس لأحلامنا بسبب تصرفات البعض الموتورة، والغير مسؤولة، مصر الأولى عربيا والثالثة إفريقياً وفي المركز ١٤ عالمياً في الزيادة السكانية، طفل كل ١٥ ثانية مما يعني دولة تضاف لأعباء الدولة كل عام، فكفي ودعونا نجني ثمار التنمية والتغييرات المحورية في شكل الدولة المصرية ولا تكبلوا قطار التنمية بالتزامات حد الكفاف ثم نعود للشكوى ونبكي أننا بنأكلها حاف!