محمد السنوسي يكتب: لم يكن يعلم
استيقظ فى ذلك اليوم وفى داخله رغبة كبيرة فى تحقيق ما فكر فيه وحاول أن يخطط له مع زملائه، استيقظ وفى قلبه مرارة شديدة سببتها مشاهد رسخت فى ذهنة ولم ينساها مطلقًا، استيقظ وهو يرغب فى نوع من التغيير ويخطأ من يقول أنه كان يريد كل التغيير، استيقظ وهو لا يعلم هل سيجد أصدقاءه فى انتظاره فعلاً أم أن الخوف سوف يمنع بعضهم من القيام بما يرغبون به ويفكرون فيه، استيقظ فى يوم عادي بالنسبة له وللكثيرين.
قام أشرف من نومه وهو على صلابة فى موقفه وعلى إصرار فى تحقيق هدفه هذه المرة، فهو دوماً يحاول أن يحققة ونفسه تحدثه بأن الأمر مستحيل وضميره يحدثه بأن الأمر واجب ولابد منه، فعمره الذى مضى لم يتم التخطيط له من قبل سلطة أضاعته ولم تؤهله فى أى مجال من مجالات حياته.
خرج الشاب من غرفته ليعد نفسه للنزول، ولمح والدته التى تستيقظ دوماً مبكراً لتعد لهم الطعام، فى ذلك اليوم وجدها بمفردها جالسة وتردد الدعوات له ولإخوته وتدعو الله أن يخلص حقه ممن ظلمه وأخذ مكانه فى التعيين رغم أنه كان يستحق ذلك، وأن يخلص حق أخيه الذى سجن ظلماً لمجرد انتصاره لكرامته فى كلامه مع أحد أفراد السلطة التى تحكم البلاد، وأن يخلص حق والده الذى تم إخراجه من وظيفته إجباريا لرفضه المساهمة فى الفساد، وأن يخلص حق خاله الذى تم اعتقاله لمجرد إبدائه الرأى حول أمور لا يجب الكلام فيها، وأن يخلص حق مصر كلها من سلطة أفقرتها وأفسدتها.
هنا وجد الشاب فى عيون أمه الدموع فولدت رغبات جديدة فى داخله، أعد نفسه للنزول وأخبر والديه أنه سيذهب للقاء أصدقائه، نزل أشرف فوجد فى طريقه لركوب الأتوبيس أمًا كبيرة فى السن فقيرة فى المظهر وجدها وهى واقفة بجوار القمامة تبحث فيها على ما يمكن أن يسد رمقها ورمق أطفالها، زادت الرغبات داخله وتأكدت كل أفكاره تجاه السلطة التى أفقرت البلاد وخلقت فيها التناقضات التى جعلته بعد فترة من مروره على تلك الأم يرى موكبًا فخمًا وكبيرًا لرجل أعمال يمر من المنطقة وهو مجبر لأنه يريد الذهاب لمكان بعد هذه المنطقة.
فى طريقه إلى زملائه وهو فى الأتوبيس لمح الحسرة فى عيون الناس والهم يغطى الجميع إلى الدرجة التى تجعلهم لا يتحدثون معاً، فالكل صامت والكل متحفز لدرجة أن أبسط الأمور قد تثير العراك، وفى أثناء هذا يلمح السلطة توقف سائق الأتوبيس لممارسة مزيد من التسلط والاستغلال، بل وعلى الناحية الأخرى من الطريق يلمح شابًا يتم ضربه من قبل نفس السلطة، فيتذكر أشرف بقوة الخالد السعيد الذى لم يفت على استشهاده سوى القليل.
وصل الشاب إلى زملائه وبدأ معهم السير نحو التغيير فى انطلاقة سلمية تامة وبهدف إصلاحات تؤكد الدنيا كلها أنها مشروعة، فيجد نفس السلطة تتصدى له من أجل إجباره على الصمت وإلا سيتم إصماته عنوة، لم يحفل الشاب ومعه زملائه بهذا الأمر فهو ماض فى طريقه وفى ذهنه أمة الباكية الداعية والأم الأخرى التى تذرف الصخور عليها وعلى حالها دموعاً والسلطة الظالمة الفاسدة التى ساهمت فى صناعة التناقضات المجتمعية، زاد عزمه وتصميمه فى لحظة زاد عزم وتصميم السلطة فيها على التخلص منه، خرجت الضربة من يد السلطة لتوجه إلى من كان يجب أن تعتنى به ليكون حصنها ودرعها وسيفها وبانى أمجاد بلادها، خرجت الضربة لتردى أشرف شهيدًا ونحسبه عند الله كذلك، خرجت وفى عيون أشرف كل السرور والفرح أنه أدرك فى هذه اللحظة أن التغيير بدأ وأنه لن يكون الأخير وأن ما عاش فيه لن يتكرر بعد موته مع إخوته الصغار ولكن للأسف لم يكن يعلم.
لم يكن يعلم أن أحلامه لن تتحقق كاملة كما أراد لبلاده، لم يكن يعلم أن دماءه قد تذهب بدون أى ثمن أو محاسبة، لم يكن يعلم أنه سيوصف بالبلطجى والمجرم وأن ما فعله كان خطأ سبب أزمة للبلاد، لم يكن يعلم أن من سيسبونه سيفلتون من العقاب، لم يكن يعلم أن أخته سوف يتم سحلها فى نفس المكان الذى بدأ منه مسيرة التغيير، لم يكن يعلم أن السلطة الجديدة - والتى لم تكن جديدة - سوف تحملة مسئولية تدهور الأوضاع فى كل المجالات، لم يكن يعلم أن الذكرى الأولى لاستشهاده سوف تمر وأمة جالسة فيها على بوابة منفذ حكومى لتسجله فى عداد الشهداء لأن السلطة لم تسجله ولكن سجله التاريخ، أو تمر وأمه جالسة أمام بوابة محكمة تنتظر القصاص الذى تأخر وضاع.
استشهد أشرف ولم يكن يبالى بمصيره، أكثر ما شغله مصير بلاده التى ربما حلم فى آخر لحظة فى حياته أن تكون شهادته بداية لشهادة ميلاد جديدة لوطن خال من سلطة فاسدة قاهرة ظالمة مستبدة.. ولكنه لم يكن يعلم!