الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أيمن يوسف يكتب: قهوة وقرص ليريكا على متن الغواصة تيتان

د. أيمن يوسف
د. أيمن يوسف

رغم اختلاف الألسنة واللغات واتساع الجغرافيا الحضرية والثقافية للانسان؛ تظل النفس البشرية واحدة، كالنسخة الأم التي يعاد طباعتها بثيمات مختلفة، الا انه في النهاية تبقى هناك نسخة رئيسية واحدة، أصل انشطر منه الملايين والمليارات عبر السنين، بكل ما تحمله النفس البشرية من جموح وتطلع واطماع وطموحات ونورانية وظلامية ورغبة ملحة للاستكشاف والتعمق والمغامرة، حتى وان دفع الانسان مقابل ذلك ملايين الدولارات، وتوجه لشراء الموت بورق البنكنوت مقابل نشوى التحقق، دائما ما كانت اعماق المحيط والبحر تكتسب رمزية لتلك "الضفة" من النفس البشرية المشحونة بالرغبة تجاه اكتشاف اعماق الموجودات والغوص على اسرار ما وراء المرئي والمشاهد والمألوف. اعماق البحر والمحيط تبدو ككاهن يخزن في اعماقه اسرار عن الوجود والكون والحياة والمخلوقات، عالم داخل العالم...يكسوه الظلام وطبيعة صراعية مميزة وشروط اخرى للبقاء والاستمرار وكائنات بأبعاد بيولوجية خاصة تتحمل بيئة خاصة جدا، لذا من شبه المستحيل ان تجد "سلف مشترك" او تشابه في التنظيم البيولوجي او التشريحي لكائنات البحر مع باقي المخلوقات في السماء او البر او حتى كائنات ما تحت الارض.

ولم تُخاطَب النفس البشرية بمثل ما خاطبتها "تايتانيك" وأغوتها منذ ولادتها عام 1912، منذ الوهلة الاولى وتايتانيك تغازل شهوة النفس "بالخلود" عندما اعلنت عن نفسها أنها السفينة التي تمنح الخلود ولا تغرق، وتغازل شهوة البشر لتحدي الطبيعة وتطويعها لرفاهيته حيث تم تشيدها لتكون أضخم سفينة ركاب مخملية عملاقة عابرة للمحيط...لك ان تتخيل مبنى بارتفاع احدى عشر دورا وبعرض جراج سيارات متعدد الطوابق يسير في الماء، ومكتظا بهذا الكم من الرفاهية، تايتانيك كالمرأة.. تغوي وتلمح وتصرح وتنادي، تايتانيك امرأة ألهمت المهندسين والصناع والمشيدين كي تكون باكورة انتاجهم، وألهمت السياسيين وصناع المجتمعات بتنظيم مجتمع طبقي وارستقراطية تجمعهم على متنها بأوامرها ورضاها، امرأة تدعوك لاكتشافها فتغرق او تنتحر او "تجنّ"، تطلق على نفسها الشائعات كي تزيد "حلاوة"، وتحيط نفسها بالغموض كي تزيد وهجا واستفزازا للنفس والمخيلة، في صورها القليلة التي وصلتنا تجدها تمشي في البحر كمشي امرأة ملغمة بالانوثة اختارت السير بأطراف الاقدام لتوزع الغواية، حتى في هلاكها "وموتها" كانت ملهمة للشعراء والمفكرين وأرباب السير والمخرجين، خرج من مأساتها مئات الملاحم والقصائد والروايات والمقطوعات الموسيقية والاعمال السينمائية، وكجنيّة "النداهة" تنادي بقايا تايتانك دوما من قبرها وتغازل شهوة النفس البشرية للاستكشاف والمغامرة والغوص في اعماق البحر، كي تقتل وتمضغ بين انيابها، مثلما فعلت من قبل وفعلت ببقايا الغواصة تيتان وضحاياها من المغامرون الخمسة.

لا أعي حجم الشهوة التي اجتاحت شخص كهنري نارجوليت كي يكمل أكثر من ثلاثين غطسة إلى حطام تايتانيك إلى أن لقى حتفه  مع انفجار الغواصة تيتان على بعد أمتار منها، ولا أتصور حجم الغواية التي اجتاحت الملياردير شاه داوود -المهووس بالسفينة منذ عقود- من أجل اصطحاب ابنه سليمان في مغامرة لالتقاط صورة مع عظام تايتانيك من خلف نافذة زجاجية، لا أعي حجم الشغف الذي تملك مهندسي معدات البحر الثقيلة كي يصنعوا غواصة تدار بأذرع Family game وازرار playstation، من أجل اسكتشاف "ضريح تيتانيك"، والطواف حولها في كبسولة بحرية من اجل رد النداء، لكنها كالعادة صبت لعنتها نحو كل من اقترب او دنا او اشتهى، نكاد نجزم انه كان هناك بداخل تلك الكبسولة الضيقة "تيتان" فنجان قهوة مقسما خلال الرحلة على الزائرين الخمس، وقرص ليريكا لاقلهم ثباتا واكثرهم جموحا، كي يتحمل العاشق "الغواص" اهوال الغوص وضيق الكبينة واختلال اجهزة الجسد تحت هذا العمق، ولربما من اجل احتمال بهاء المشهد ونشوى اللقاء وأوامر النداهة التي تخاطب كل شبر من النفس البشرية.

تايتانيك وتيتان ملخص الحياة والأرض والغواية، حكاية النفس البشرية، وسرد لقصة الانسان الازلية، روايته القديمة والآتية، في تتمة مغامرة تيتان لم تفلح الاقمار الصناعية ولا اجهزة اللاسلكي ولا معدات البحرية الامريكية- الكندية العملاقة في انقاذ ضحايا تايتانيك الجدد، رجع الروبوت الفرنسي "فيكتور" خائب الامال في العودة بهم، فيما جلس الصيادون وزوار مقاطعة نيوفاوندلاند في الحديقة المجاورة لمرفأ سانت جون اقدم موانئ امريكا الشمالية الذي انطلقت منه فرق الانقاذ يرقبون عودة قوارب الانقاذ الخالية خائبة الرجاء، ذهب البعض لزرع بعض الاشجار بالنيابه عن سليمان وابيه، وألقى اشخاص اخرون بعض الزهور على اسم الضحايا اسفل نصب تذكاري بجوار مرفأ سانت جون، فيما جلس المغامر لاري دالي مستكشف تايتانيك والمخرج جيمس كاميرون صاحب رائعة تايتانيك- روز وجاك بالتسعينات في حداد عظيم على روح صديقهم هنري نارجوليت الذي شاركوه رحلة مماثلة عام 2003، صرح لاري دالي للصحافة ان الامر سيستغرق وقتا من اجل مداواة وفاة صديقه، وانه يتعين عليه التوفيق بين المأساة وشغف الاستكشاف، من ثم تمتم بصوت منخفض "سنواصل الاستكشاف...هذا ما عليه الطبيعة البشرية"، أجل انها الطبيعة البشرية وحتمية الغواية والفناء وندّاهات الازمنة والعصور في كل زمان ومكان.