الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أيمن يوسف يكتب: طارق أسعد.. آخر هدايا القدر (3)

د. أيمن يوسف
د. أيمن يوسف

وصلتني تبريكاتك عما منّ الله به عليّ في الرحلة التي بدأناها سويا في هذا البلاء العظيم، حفظتَ وصيتي حقا التي أودعتك إياها في آخر سطر من سطور قصيدة رثائي لك "فأرسل لنا من زهر مثواكَ...ما منك يبلغنا السلام"، كانت تصلني أزهارك دوما كلما خطوتُ خطوة انتصار أو نجاح، وأنا الذي كنت كمن قطعوا عنه المخدر وسط العملية الجراحية عند ارتقائك للسماء، رزقني الله بمن أكمل عنك الأمانة، يشبهونك كثيرا، وكأن الأرواح الفياضة تتسلم أمانة الرسائل بعضها عن بعض في عالم لا مرئي، ييسر الله فيه تلقي الرسائل لمن كان "عملا صالحا"، ولمن "يسره الله لليسرى" دون وعي أو إدراك منه لحظتها لقداسة ما يسره الإله إليه وأملاه "وحياً" على قلبه في عوالم نورانية، عوالم يستدعي فيها الله خيرة أصفيائه من المطهرة قلوبهم والشفافة بصائرهم والنقية سرائرهم، لأسأل نفسي كيف كان سيكون مصير "عقلي" و"ايماني" دونكم، وأنا الذي كشفت لي الحياة عن سوأة نفوس إنسان الهومو سابينيس (سلالة الإنسان الحالي)، لأذوق من ظلامية النفس البشرية ما يتلف إيمان ولب الحكماء والزهاد، وأحيا فيما لم نقرأه في كابوسية كافكا، وملاحم بريخت، ومآسي سوفوكليس على منصات أثينا القديمة، ويُصرف لي من الغلظة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب "حجر".  

تمر نفحاتك دوما على جميع أصدقائك وزملائك وتلامذتك ومرضاك، أسسوا لك صفحات باسمك وجمعوا أبحاثك ومحاضراتك المصورة والصوتية وكافة ما أبليت، ليمتد علمك ينتفع به وترتفع مقاما فوق المقام، تأسست جوائز سنوية في البحث العلمي باسمك ليزهو كل من حصل على جائزة الدكتور طارق أسعد لأبحاث الطب النفسي زهوا فوق زهو، ويمر على خاطري الحديث النبوي وأتأمل تلك الشجرة التي غرزتها لتثمر عليك الآن في الميزان ويختمر على الأرض كل ما لم ينقطع به عملك، أردد الدعوات في خاطري أن يتقبل الله كل هذا وأن يشفع لك ما صادقته عليه في السر والعلن.

هل ما زلت تخاف عليا الموهبة كما كنت تقول لي دوما؟! كنت تراها أعقد عذاباتي وتراهن في ذات الوقت أنها ستصبح سر خلاصي من هذا الجب، في الجب تختمر المواهب، ولكن فئران الحقل تمضغ أرغفتها كل صباح، تقرض أطرافها وتتلف تفاحتها، كنت ترى بي موهبة في الطب والبحث العلمي والشعر والفكر والفلسفة، تراقبها وتسقيها وتمدحها وتخافني أوجاعها، يتردد في ذاكرتي صوتك الإذاعي الأبوي الحاني في ترحابك لمكالمة صباحية عابرة بيننا..."صباح الخير أيها الموهوب"، لألمح بك موهبة إنسانية تتسلل إلى جسدي المريض الملقى في كمته وأستعيد شيئا من طاقتي، ويزداد صبري ويتعمق ايماني "بنورانية" الأخلاق والإنسانية وسحرهما في تعافي وشفاء الأسقام، وأنا الذي فتنني الله في إيماني ونشأتي وتكويني وحكايتي التي لا يعلمها إلا الله وأنت وأنا، أواصل صابرا محتسبا قابضا على جمر الصبر والأمل والفضيلة كما أوصيتني، حتى منّ الله عليّ من فيوضاته التي أعلم أنك تستشعرها وتباركها من مقامك الآن.

لازلتُ منغمسا في فك أسرار جزيء الميثيل ودورته "الجهنمية" في جسد الإنسان، ليعمل كل هذا الإعجاز في الوظائف الحيوية والتعبير الجيني وميكانيزمات الأمراض والتعافي، وأنغمس أكثر في دراسة علاقاته بالسلوك والتفكير والمشاعر والطب النفسي والظاهرة الإنسانية بأكملها، أظنه من وجهة نظري وكما تحدثنا أنه عميد علوم "الأعصاب السلوكية"، وأميل إلى تشبيهه في الظاهرة السلوكية للكائنات بجزيء الماء بالنسبة للظاهرة البيولوجية، بجزيء الماء تحيا وتستمر الظاهرة البيولوجية، وبجزيء الميثيل تستمر وتحيا الظاهرة السلوكية والنفسية والاجتماعية.

نحن سلالة إنسان الهومو سابينيس مازلنا نحيا على الكوكب ونديره، بشّرنا يوفال هراري بأن سلالة جديدة ستتطور من إنسان الهومو سابينيس إلى سلالة إنسان الهومو ديوس أو الإنسان الإله، إنسان الهومو ديوس إنسان كامل القدرات يمتلك طفرة قادرة على تجاوز فجوات التصميم التي نحن إنسان الهومو سابينيس عليها الآن، ويبشر هراري في كتاباته عن موجز "تاريخ الغد" أن إنسان الهومو ديوس سيتخلص منا مثلما تخلصنا يوما من إنسان الهومو إريكتوس، لأننا ببساطة كنا ساعتها أكثر تطورا وقدرة على التحكم والمنافسة والتكيف، وأننا سنفقد تلك القدرة على التكيف مثلما فقدها إنسان النياندرتال مع تغيرات مناخ العصر الجليدي فانقرض وقضينا على البقية الباقية منه لنرث الأرض وحدنا، الأدهى يا عزيزي أن عوامل تآكل سلالة الهومو سابينيس لا تأتي من عوامل البيئة فقط التي عبثنا بها بأيدينا، بل من فجوات التصميم الاجتماعي والحضاري التي لا تكفل لسلالتنا الارتقاء الجمعي أو حفظ النوع، نحن الهمومو سابينيس لم نصل بعد لنظرية سياسية دولية حتى الآن و"الأناركية" لازالت تحكم النظام الدولي، غريزة الهايبرغامي في النساء تغذيها برامج ومحددات التنمية، الارتباط الفوقي لا زال في عمق سلالتنا وذكور الهومو سابينيس يفقدون فحولتهم "النفسية" بالتدريج بعد أن كانت تلك الفحولة دافعا للتكيف والتحكم والشغف بالكوكب، لم يفهم انسان الهومو سابينيس بعد أن الفجوة بين الهايبرغامي في اناث السلالة والتقافز القردي وتآكل الذكورة النفسية هم عوامل بعيدة المدى لتحلل للسلالة، وان مشكلات التصميم الاجتماعي والبيولوجي لدينا سيتجاوزها انسان الهومو ديوس بطفرته "التكيفية" و"التنافسية" ليستلم الكوكب عنا ويبدأ تاريخ وزمان جديد مع المعنى والحكمة والتكيف على سطح الكوكب.…..يتبع.