الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كريمة أبو العينين تكتب: حصاد القهر

كريمة أبو العينين
كريمة أبو العينين

فى واحدة من روائع الأدب الروسى، يتحدث البطل إلى أجساد عائلته التى قتلها الجوع الناجم عن الحصار الغاشم على بلدته المناضلة من أجل الحرية، فيقول لهم: “بالأمس كنا معا نقتسم كل شىء، حتى الحزن كنا نوزعه على ستة أفراد، والآن أصبح الحزن من نصيبى أنا فقط، فهل أستطيع أن أتحمل هذا الميراث القاسى”!!!!

هذه الكلمات تتشابه كثيرا مع ما نراه ونعيشه مع أهل غزة الذين يعانون جبروت وغطرسة النازيين الجدد الذين استحلوا دماء أهل غزة وقتلوا أطفالها ونساءها ونكلوا بالأحياء منهم.

المشاهد المتوالية من غزة رغم قسوتها، إلا أنها تؤكد أن المقاومة الفلسطينية وصلت لمرحلة اللاعودة، وذلك مثلها مثل كل حركات التحرر والاستقلال، والتاريخ خير شاهد،  وما أشبه الليلة بالبارحة، ففى شمال أفريقيا مثال  واضح على الإصرار الجزائرى على مواصلة طريق الكفاح والمقاومة فى وجه أعنف قوى استعمارية حينذاك "الاحتلال الفرنسى" الذى جثم على صدر أبناء الجزائر العظماء لأكثر من قرن واقترب من قرن ونصف، ومارس ضد الشعب الجزائري العنيد جميع أنواع الهمجية والعنف والقتل، والاستعباد والذل، لدرجة أن المستعمر كان يتفنن فى التعذيب ويقطع رؤوس المجاهدين أمام ذويهم ويرسلها إلى باريس لتجمعها فى متاحفها كرمز لقوتها وجبروتها.

تاريخ طويل من العنف قابله إصرار على الحرية مهما كان الثمن، وكان الثمن غاليا جدا؛ قرابة المليونى شهيد دفعوا فاتورة حرية الجزائر واستقلالها فى ستينيات القرن الماضى.

الجزائريون وصل بهم العنف والاحتلال والقسوة إلى نقطة اللاعودة، وأصروا على مواصلة طريق الحرية المعبق بدماء الشهداء والوطنيين. 

نموذج الوطنية الحزائرية يقترب بكثير بل يكاد يتطابق مع التجربة الفلسطينية من المعاناة والألم والذل؛ فعلى مدى أكثر من سبعة عقود، ذاق الفلسطينيون كل أنواع الألم والقهر ؛ وتجرعوا مرارة الفقد والخذلان من القريب قبل البعيد، سمعوا من يعايرهم ويتهمهم ببيع وطنهم، تحملوا مرارة أن يتجنسوا بجنسيات أخرى من أجل مواصلة الحياة، رضوا بالعيش أو اضطروا للتعايش تحت قبضة احتلال غاشم تعامل معهم معاملة العبيد إن لم يكن أسوأ.

سلبت منهم ممتلكاتهم على مرأى ومسمع منهم ومن العالم الأصم، أصبحوا أغرابا على أرضهم، منزوعي الحياة على الرغم من وجود أرواح فى أجسامهم.

الفلسطينى ذاق طعم القهر وهو مقيد الحركة فى بلده، لا يستطيع أن يمارس أبسط وسائل الاستمتاع بما فى بلده، وأن يتنقل من مكان لآخر لأن سلطات الاحتلال قيدته بسلسلة كبيرة من التصريحات ومن الطرق الطويلة الملتفة والجدران العالية التى تجعل تنقله من مكان إلى مكان مجاور لسكنه دربا من دروب الإعجاز العلمى.

وزادت عليه بتسليط المستوطنين أو المجرمين المتعطشين للدماء على أبناء الضفة المحتلة وجميع مدن فلسطين، فأصبح المستوطن يصب جام غضبه مدعوما بالطبع بالقوة العسكرية الإسرائيلية، ويواصلون كلهم انتهاك إنسانية الفلسطينى، وحدث ولا حرج عن حملات الاعتقالات والمداهمات المحمومة على الفلسطينيين، وزجهم فى السجون بلا محاكمات، وإن تمت المحاكمة؛ فلك أن تتأكد من مقولة أن القاضى هو الخصم، فبماذا سيحكم على من صنف بالمذنب فى محكمة إسرائيلية خصومها حكامها!

اتسعت رقعة القهر وامتدت لتبتلع معها قطاع غزة ويتم حصاره لما يقرب من عقدين، ولم يتحرك أحد لفك حصاره ولا إنقاذه من الغشم والغطرسة الإسرائيلية، بل إن الكل تعامل معه أسوة بإخوته فى الضفة المحتلة. 

القهر والخذلان والألم متواصلين متشابكي الأيادى حتى وصلت كل الإرهاصات إلى مرحلة "اللاعودة"، تلك المرحلة التى يقول عنها التاريخ إنها أشبه بأن تزج بمواطن من مكانه وتدفعه دفعا إلى الحائط، وكلما أطبقت حصارك عليه كلما زاد ألمه ليصل إلى مرحلة تعرف بـ"قاتل أو مقتول"، تلك المرحلة التى يصل فيها الألم إلى منتهاه والموت يمثل النجاة من العذاب.

ولكن الموت هنا لا بد أن يكون موتا شريفا، وهذا ما سيحدث لأى مقاوم، لن يفكر فى نهايته ولكنه يريد وضع وصناعة بداية مشرفة لنسله ولشعبه ولوطنه.

ما يحدث فى غزة والأراضي المحتلة ليس إلا "حصاد القهر"، إذا نحينا جانبا عبارات المقاومة والدفاع وغيرها من المصطلحات الرنانة، فسنوات الذل والاستعباد تجمعت فى جملة من كلمتين "حصاد القهر "، وهو حصاد مرير لن يتراجع أبناء غزة بصفة عامة والمقاومة بصفة خاصة عن إفراز آثاره وآلامه لمن أذاقوهم هذا الطعم المحزن المؤلم لسنوات طوال.

ومهما كانت النتائج، فلن يعود الوضع كما كان عليه لعقود فى الأراضى المحتلة بل وفى العالم أجمع، فما صنعته المقاومة فى شهورها الأربع ونيف غير وجه وملامح العالم كله ولم تعد إسرائيل كما كانت عليه من قبل، ولم يعد الغرب، وأقصد الشعوب وليس الحكومات، كما كانوا على جهلهم وتصديقهم للكيان الإسرائيلى بأنه واحة الديمقراطية وسط غوغاء قتلة لا يحبون تل أبيب ويحاولون إن استطاعوا افتراسها.

العالم كله سيتغير وسيظهر جيل جديد يرى غير الذى اعتاده وسيفعل أشياء تغير هى الأخرى الترتيب الدولى والخريطة العالمية.

الوضع إقليميا وعالميا سيتجه اتجاها آخر،  وسيوجد مفهوم جديد يؤيد الحق ويساعد أصحاب الحقوق على استعادة ما سلب منهم قسرا وعنفا وغصبا. 

نحن على مشارف مرحلة أخرى من تاريخ المجتمع الدولى الحديث سيكون فيها تغيير تشيب له رؤس الاطفال وينتهى فيه سلطان دول قامت على عظام  أناس مسلوبي الحق وباحثين عن حقيقة تعيد إليهم حقوقهم، سيتحدثون بلغة جديدة سطر معانيها جملة يختتم بها المقاومون حديثهم “إنه جهاد.. نصر أو استشهاد”.