رغم أن اللوحات الفنية لا تقتل ولا تُهرّب الأسلحة، إلا أن عالمها كان دومًا محفوفًا بالمخاطر، لا سيما حين يتحول الجمال إلى سلعة ثمينة تلهث وراءها عصابات السرقة الدولية، وبعض المتاحف الفقيرة، وجامعو التحف في السوق السوداء، عبر التاريخ، كانت سرقة اللوحات الفنية واحدة من الجرائم الثقافية الأخطر، التي لا تهدد فقط التراث البشري، بل تفضح هشاشة الحماية، وفساد المؤسسات أحيانًا.
وعلى مرّ التاريخ، لم تكن اللوحات الفنية مجرد قطع للعرض أو التزيين، بل كانت دومًا رموزًا ثقافية، واستثمارات مالية، و"غنائم" مغرية في أعين عصابات محترفة، وفي عالم موازٍ للفن، تنشط مافيا دولية خفية لا تسفك الدماء، لكنها تنهب الذاكرة وتبيع الجمال في السوق السوداء بأثمان خرافية، في جرائم يتشابك فيها الطمع بالفن، والسلطة بالفساد، والحرب بالجريمة المنظمة.
البدايات العالمية.. من "الموناليزا" إلى أكبر سرقة فنية في التاريخ

فى أغسطس عام 1911، وقعت عملية سرقة الموناليزا التي أبدعها الفنان الإيطالى ليوناردو دافنشى، وأحدثت ضجة كبيرة فى بلدان العالم، وقام بعملية السرقة الإيطالي فينتشنزو بيروجى، حيث أن عمله فى متحف اللوفر، كمرمم لإطارات اللوحات الموجودة بالمتحف، ساعده في سرقة لوحة الموناليزا.
وبدأت حكاية السرقة، عندما خرج من بيته ليذهب إلى عمله، وقبل الوقت المحدد لانصراف الموظفين بعد انتهاء موعد العمل الرسمى، وقف فى ركن بعيد يراقب المارة ليرى هل بالمكان أحد، وعندما تأكد من إخلاء المتحف ولم يتبق غيره، قام بسرقتها ووضعها تحت معطفه بسرعة وخرج بكل هدوء، ولم يشك أحد فى فينتشنزو بيروجى نظرًا لأنه من الموظفين الموجودين بالمتحف، ومر من أمام البوابات دون أى معوقات، وظلت اللوحة مفقودة لعامين كاملين، وأثارت ضجة عالمية لم تنتهِ حتى استعادتها، لكنها صنعت في الوقت نفسه شهرة غير مسبوقة للعمل الفني.
وعندما قرر فينتشنزو بيروجى، بيع اللوحة ذهب إلى الفنان الإيطالى ألفريدو جيرى ليتفق معه على شراء اللوحة المسروقة، وبالفعل أعطى ألفريدو جيرى الأمان لبيروجى لحين التأكد من أن اللوحة أصلية وليست مقلدة، وبالفعل بعد أن أخذ الفنان الإيطالى منه اللوحة عام 1913، وتأكد أنها اللوحة الأصلية قام بإبلاغ السلطات الإيطالية عنه، والتى قبضت على بيروجى، وقامت السلطات الإيطالية بوضع اللوحة فى متحف بوفير جاليرى، وهذا ما أسعد الإيطاليين، وعندما علمت فرنسا بهذا الأمر دارات مفاوضات دبلوماسية بينها وبين إيطاليا، وبسبب عملية سرقة لوحة الموناليزا كانت ستقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين لولا إصرار فرنسا على أن تعيد إيطاليا اللوحة ومعها السارق حتى تقوم فرنسا بمحاكمته، وقامت إيطاليا بتسليم اللوحة لفرنسا، وحكم على بيروجى بعام داخل السجن.
سرقة 13 عملًا فنيًا من متحف إيزابيلا ستيوارت جاردنر

منذ ذلك الحين، تكررت السرقات الكبرى، لكن أخطرها كان في 18 مارس 1990، حين اقتحم شخصان متنكران في زي شرطة متحف "إيزابيلا ستيوارت جاردنر" في بوسطن، وسرقا 13 عملًا فنيًا تقدر قيمتها اليوم بأكثر من 700 مليون دولار، منها أعمال نادرة لرامبرانت وفيرمير، ورغم مرور 35 عامًا، لم يُسترد أي من تلك اللوحات، وفي البداية عرض المتحف مكافأة قدرها 5 ملايين دولار للحصول على معلومات تؤدي إلى انتعاشهم ولكن في عام 2017 تضاعف هذا المبلغ مؤقتا إلى 10 ملايين دولار مع تاريخ انتهاء مدة الصلاحية المحددة حتى نهاية العام.
ووفقا لمكتب التحقيقات الفدرالي، فإن الأعمال الفنية المسروقة تم نقلها عبر المنطقة وعرضت للبيع في فيلادلفيا خلال بدايات عام 2000، ويعتقدون بأن اللصوص عبارة عن أعضاء في منظمة إجرامية مقرها في وسط المحيط الأطلسي ونيو إنغلاند، ويدعون أيضا بأنهم كشفا اثنين من المشتبه فيهم، على الرغم من أنهما لم يتم تحديدهما علنا والآن هما متوفين، وتم القضاء على عصابة بوسطن بوبي دوناتي في عام 1991 نتيجة لحروب العصابات المستمرة، وتشير الأدلة إلى أن هارتفورد على علم بموقع الأعمال المسروقة يعرف على الرغم من انه ينفي وجوده في هذه العملية.
سرقات في قلب المتاحف

شهدت المؤسسات الثقافية حالات متعددة من سرقة اللوحات، بعضها ارتبط بالإهمال، وبعضها أُثيرت حوله شبهات فساد.
أشهر هذه السرقات كانت في 2010، حين اختفت لوحة "زهرة الخشخاش" لفان جوخ من متحف محمد محمود خليل وحرمه، وهي لوحة قُدرت قيمتها حينها بأكثر من 50 مليون دولار، صُدم الجميع حين تبين أن كاميرات المراقبة لا تعمل، وأن إجراءات التأمين غير مفعّلة، مما كشف عجزًا إداريًا كبيرًا، أدى لاحقًا إلى إحالة عدد من المسؤولين للتحقيق.
لكن الحادثة الأخطر والأكثر غموضًا حدثت في 2017، عندما تم اكتشاف اختفاء 5 لوحات أصلية للفنان المصري العالمي محمود سعيد من متحف الفن الحديث بالقاهرة، في سابقة أثارت موجة من الدهشة والغضب في الوسط الثقافي، اللوحات المنهوبة تنتمي إلى واحدة من أبرز مجموعات الفن المصري الحديث، وتصل قيمتها السوقية لعشرات الملايين من الجنيهات.
ما زاد من حدة الجدل أن سرقة اللوحات الخمس لم تُكتشف فورًا، بل بعد فترة طويلة، ما يشير إلى ضعف آليات الجرد، أو التستر المتعمد، لكنه استعادة الأجهزة الأمنية من استرداد اللوحات، قبل تهريبها خارج البلاد، وتم تحويل المتهم إلى النيابة العامة آنذاك.
إهمال وتراخي
اللافت في كثير من سرقات اللوحات، سواء عالميًا أو محليًا، أن الجناة لا يقتحمون المكان من الخارج، بل غالبًا ما يستغلون ثغرات داخلية، فعدد كبير من هذه الجرائم تم بالتواطؤ مع موظفين أو أمناء متاحف، أو على الأقل نتيجة الإهمال والتراخي في تنفيذ إجراءات التأمين.
في مصر، لا تزال عمليات الجرد غير مميكنة بشكل كامل، ولا توجد قاعدة بيانات رقمية موحدة تربط بين المتاحف والمؤسسات الرقابية، ما يُسهل وقوع السرقات واختفاء الأعمال دون أن يُكتشف ذلك إلا بالصدفة أو بعد فوات الأوان.
سوق رمادي.. وإرث يُباع في الخفاء
جزء كبير من الأزمات يعود إلى غياب التوثيق الحديث، فحتى اليوم، لا تملك مصر قاعدة بيانات رقمية متكاملة وموحدة لكل الأعمال الفنية في حوزة الدولة، ما يفتح الباب للعبث، أو لاستبدال اللوحات بأخرى مزيفة، أو تهريبها دون أن يُكتشف ذلك إلا متأخرًا، وربما لا يُكتشف أبدًا.
سوق الفن السوداء يرحب دومًا بأي عمل بلا سند ملكية واضح، أو عمل "تم تهريبه بصمت"، والخطر يتضاعف حين تكون المؤسسات نفسها غير مدركة لقيمة ما تمتلكه، أو حين يتحول بعض القائمين على حماية التراث إلى جزء من دائرة النهب، فاللوحات المسروقة لا تُعرض في مزادات كبرى علنًا، لكنها تنتقل في دوائر ضيقة، غالبًا بين جامعي التحف الأثرياء، وبعضهم على استعداد لامتلاك عمل مسروق مقابل صمته، وقد يتم بيع العمل بعد سنوات، بعد تغيير توقيعه أو قصّه أو تزوير تاريخه.

التوثيق ضروري
مواجهة مافيا سرقة اللوحات لا تتطلب فقط تأمينًا ماديًا للمتاحف، بل تبدأ بالتوثيق: قاعدة بيانات رقمية موحدة، مزوّدة بصور عالية الدقة، وأرقام تسلسلية، وتحديث دوري، ثم تأتي الحماية: كاميرات حديثة، أجهزة استشعار، وربط فوري مع الشرطة.
والأهم من ذلك، خلق ثقافة مؤسسية تُدرك قيمة هذه الأعمال كجزء من هوية الوطن، لا مجرد "أشياء معلّقة على الجدران".
واقعة "مها الصغير".. جرس إنذار أخير؟

مؤخرًا، أثارت الإعلامية مها الصغير حالة من الجدل، الأيام الماضية، بعد اتهامها بانتهاك حقوق الملكية لأربعة رسامين أجانب، وعرض لوحاتهم خلال استضافتها في برنامج "معكم" للإعلامية منى الشاذلي، على أنها صاحبة اللوحات، وبدأت الأزمة بنشر الفنانة التشكيلية الدنماركية ليزا لاش نيلسون، والتي اتهمت الإعلامية مها الصغير، بإدعاء ملكيتها لإحدى لوحاتها، والتي ظهرت بالبرنامج دون ذكرها لاسم الفنانة التشكيلية الدنماركية، والتي أكدت أنها صاحبة اللوحة وقد رسمتمها في عام 2019.
كما اتهم الفنان التشكيلي الفرنسي "سيتي" الإعلامية مها الصغير بسرقة عدد من لوحاته الفنية ونسبتها لنفسها، ونشر سيتي صور اللوحات من الحلقة عبر حسابه بـ"إنستجرام"، وعلق قائلا: "يا لها من صدمة كانت هذا الصباح حين اكتشفتُ العديد من رسائلكم التي تخبرني أن شخصية عامة، في أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة في مصر على قناة ON-E، زعمت أنها صاحبة أعمالي الفنية: Dwarka، وKigali، وBushido وهي لوحات أنجزتها في عام 2017".
وعلقت الفنانة التشكيلية الألمانية كارولين وينديلين على أزمة عرض لوحاتها في برنامج "معكم منى الشاذلي"، قائلة: "أنا لست مشهورة، أعمل حتى الإرهاق، وأربي في الوقت نفسه ثلاثة أطفال صغار، أبذل كل قلبي في فني، على أمل أن يمنحنا ذلك يومًا فرصة لشراء منزلنا الأول، تخيلوا شعور رؤية مؤثرة ثرية تسرق فني، وتدعي ملكيتها، وتعرضه على التلفزيون الوطني كما لو كان من يديها، لم تفعل مها الصغير هذا مع لوحتي فحسب، بل فعلت ذلك أيضًا مع أعمال ثلاثة فنانين آخرين".
هذه الحادثة سلطت الضوء على أهمية تفعيل الرقابة على سوق الفن المحلي، ومتابعة حركة بيع واقتناء الأعمال النادرة، خاصة تلك المرتبطة بفنانين كبار لا يُفترض أن تكون أعمالهم متاحة خارج المتاحف الرسمية دون سند قانوني موثق.
مافيا الفن.. عصابات منظمة تتحكم في السوق الأسود للجمال

تُقدّر الشرطة الدولية (الإنتربول) أن سرقة وتهريب الأعمال الفنية تدر أرباحًا سنوية تتجاوز 6 مليارات دولار، ما يجعلها تأتي بعد تجارة السلاح والمخدرات مباشرة من حيث الخطورة والعائد المالي، وتدير هذه العمليات مافيات ثقافية عابرة للحدود، تستغل ضعف البنية الأمنية للمتاحف، والثغرات القانونية في سوق بيع وشراء اللوحات، ووجود جامعي تحف مستعدين لدفع الملايين مقابل امتلاك "عمل ممنوع".
غالبًا ما يتم إخفاء اللوحات لسنوات، وتُباع ببطء عبر وسطاء أو تُستخدم كضمانات في صفقات مشبوهة، بعض العصابات تستغل الحروب والصراعات للسطو على المتاحف أو استغلال تهريب الآثار، كما حدث في العراق وسوريا، حيث نُهبت آلاف القطع، بعضها لا يُقدّر بثمن.
وقد ثبت تورط شبكات تهريب مخدرات، وتجار آثار، وحتى أطراف لها علاقات بمليشيات مسلحة في تجارة الفن المنهوب، خاصة من مناطق النزاعات.
حماية الجمال مسؤولية وطنية
سرقة اللوحات الفنية ليست مجرد جريمة جنائية، بل اعتداء ثقافي عميق، إنها تشبه سرقة الذاكرة من الأرشيف، أو العبث بالهوية من جذورها، والحفاظ على اللوحات الفنية مسؤولية لا تقتصر على وزارة الثقافة أو إدارات المتاحف، بل تشمل أيضًا الإعلام، والمجتمع، والجهات الرقابية، والمتخصصين في الترميم والتوثيق، ولا يمكن التصدي لمافيا الفن دون تعزيز الشفافية، وإتاحة قواعد البيانات للباحثين، وتطوير نظم التأمين الفني والرقمي.