قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

نجاة عبد الرحمن تكتب.. استراتيجية المواجهة الشاملة: كيف تسبق مصر خصومها بخطوة؟

نجاة عبد الرحمن
نجاة عبد الرحمن

في عالم تتغير فيه خرائط النفوذ أسرع مما نتصور، لم تعد القوة تُقاس فقط بعدد الجيوش أو حجم السلاح، بل باتت تُقاس بقدرة الدول على حماية وعي شعوبها وصون هويتها وتحصين مجتمعها من الاختراق الناعم. مصر – بما لها من موقع جغرافي بالغ الحساسية، وتاريخ حضاري ممتد، وثقل سكاني وسياسي – تجد نفسها دومًا في قلب هذه التحديات. الخصوم لا يواجهونها بالمدافع والصواريخ، بل بالخطاب المموَّه، وبالإعلام الموجَّه، وبمنصات رقمية تتسلل إلى العقول بهدوء. وهنا يصبح السؤال الجوهري: كيف تستطيع الدولة أن تسبق هؤلاء بخطوة، فتتحول من موقع الدفاع المستنزِف إلى موقع المبادرة الفاعلة؟

الوعي هو خط الدفاع الأول، بل هو السلاح الأهم في معركة طويلة المدى. لا معنى لقوة عسكرية أو اقتصاد متماسك إذا لم يكن هناك وعي جمعي قادر على التمييز بين الحقائق والزيف. حين يُغرس في وجدان المواطن أن ما يُقدَّم له عبر بعض المنصات أو القنوات ليس سوى محاولات مُمنهجة لزرع الشك وتفتيت الثقة، فإن هذه المحاولات تفقد تأثيرها حتى قبل أن تصل إلى مبتغاها. ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار في التعليم والإعلام والثقافة، ليس فقط بوصفها أدوات للمعرفة، بل باعتبارها ركيزة للأمن الوطني.

وليس من المبالغة القول إن الأمن اليوم أصبح مفهومًا شاملًا متعدد الأبعاد. فإلى جانب الأمن العسكري، هناك الأمن الثقافي الذي يحفظ الهوية من التشويه، والأمن المعرفي الذي يصد محاولات التضليل، والأمن الرقمي الذي يحمي فضاءنا الإلكتروني، والأمن الاقتصادي الذي يمنح الدولة القدرة على مقاومة الضغوط. هذه الأبعاد لا تعمل في عزلة، بل هي شبكة متكاملة تضمن للمجتمع أن يبقى صامدًا في مواجهة الضغوط الخارجية والتحديات الداخلية معًا.

أما الجبهة الداخلية، فهي العمود الفقري لأي إستراتيجية مواجهة. فحين يشعر المواطن أنه جزء من معادلة البناء، وأن مؤسساته الوطنية – من نقابات وجمعيات أهلية ومراكز شباب – تستوعبه وتفتح أمامه آفاق المشاركة، يصبح من الصعب اختراقه من الخارج. هنا تبرز قيمة الشفافية والكفاءة في إعادة الثقة بين المواطن وهذه المؤسسات. وحين تتسع دوائر الحوار المجتمعي المنظم، فإن خطاب المعارضة في الخارج يفقد جاذبيته، لأنه لا يجد أرضًا خصبة ينمو فيها.

وفي ميدان العصر الرقمي، لا يمكن لمصر أن تكتفي برد الفعل. فشبكات التواصل الاجتماعي تحولت إلى ساحات حقيقية للصراع، ومن لا يملك أدوات حماية نفسه يصبح مكشوفًا أمام حملات مدروسة. لذلك فإن إنشاء مراكز سيبرانية وطنية قادرة على الرصد المبكر، وتطوير منصات محلية تنافس وتحافظ على خصوصية المواطن، يمثلان ضرورة وجودية. إننا نتحدث هنا عن سيادة من نوع جديد: سيادة رقمية تحدد قدرة الدولة على التحكم في تدفق المعلومات وحماية فضائها الداخلي من أي اختراق.

ولا يمكن إغفال القوة الناعمة بوصفها أحد أهم الأسلحة التي تملكها مصر تاريخيًا. فالفن الراقي، والإعلام المسؤول، والمناهج التعليمية المتجددة، والخطاب الديني الوسطي، كلها أدوات تؤثر في وعي الناس بعمق يفوق أي حملة سياسية عابرة. المجتمع الذي يجد في الشاشة عملاً فنيًا يعبر عنه بصدق، وفي المنهج التعليمي مساحة للتفكير النقدي، وفي المسجد أو الكنيسة خطابًا عقلانيًا يحتضنه ولا يقصيه، هو مجتمع محصَّن بطبيعته ضد التطرف وضد محاولات الاختراق.

ثم تأتي الحاجة إلى شبكة رصد وإنذار مبكر، تجمع خبراء الإعلام والاجتماع والأمن والذكاء الاصطناعي، لرصد أي محاولة لاختراق الوعي قبل أن تتحول إلى أزمة. إن إصدار تقارير دورية تكشف الحقائق للرأي العام لا يعزز الثقة فقط، بل يفضح الأجندات الخارجية ويمنعها من التسلل في الظلام.

في النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى أن المعركة التي تخوضها مصر ليست قصيرة الأمد. إنها حرب أجيال، حرب على العقول والقلوب، لا على الأرض وحدها. ولذلك فإن معادلة النصر لن تُكتب بالسلاح فقط، بل بالوعي الذي يسبق القوة، وبالانفتاح الواعي الذي يغني عن الانغلاق، وبالمواجهة بالحقائق لا بالشعارات. وحين ينجح المجتمع في تشييد هذا الجدار الواقي، تتحول محاولات الخصوم إلى أمواج تتكسر على صخرة صلبة، ويظل الداخل المصري متماسكًا، قادرًا على صد الضغوط، واثقًا من قدرته على المضي في طريق البناء بخطوة تسبق كل خصومه.