الشرق الأوسط يعيش فترة مخاض عسيرة وتحولات متسارعة تمهد لولادة خرائط جغرافيا جديدة ممزوجة بلون الدماء تنسف معها حدود جغرافيا سايكس بيكو ، فما بين فوضى منظمة ومستقبل مخيف تترقب المنطقة المجهول الذى يطبخ على نار هادئة فى غرف عمليات عواصم الشر تحت أعين أجهزة مخابرات تهندس مشهد ولادة خرائط الدم.
حقائق الماضي تؤكد أن مخطط إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط مر بمحطات كثيرة ، منها الحقبة الاستعمارية وتقسيم الشرق الأوسط بين فرنسا وبريطانيا عقب سقوط الدولة العثمانية "سايكس بيكو "، تلاها هزيمة مشروع القومية العربية فى ستينات القرن الماضي عقب نكسة يونيو ،لتدخل المنطقة بيت الطاعة الأمريكى إبان الغزو الأمريكي للعراق، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر لتشكل نقطة تحوّل إستراتيجية وفرت غطاء سياسى للتموضع فى المنطقة تحت ذريعة الحرب على الإرهاب وشرعنة التدخلات العسكرية ودخول مرحلة بناء القواعد العسكرية.
وكما يذوب الجليد حاول الغرب إذابة الهوية الثقافية والدينية والاجتماعية للعالم العربى عبر مشروع "الشرق الأوسط الكبير" ودمج الكيان المحتل فى براح جغرافيا العرب، باستخدام أدوات سياسية واقتصادية وفرض ما سمى بالأجندات الإصلاحية السياسية والاقتصادية التى تتماشى مع الهوى الأمريكى، لتدخل المنطقة أتون مرحلة "الفوضى الخلاقة" عبر ثورات الربيع العربي لإسقاط الأنظمة دون وجود بديل سياسى، أسفرت عن حروب أهلية وصراعات طائفية ولم تحقق المراد بل زادت الأوجاع ، لتدشن مرحلة حروب الوكالة والمليشيات للقضاء على المؤسسات الوطنية .
ولأن لكل وقت آذانه ولكل عصر أدواته، وكما تتلون الحرباء تلونت مخططات التقسيم ،لنكون على موعد مع لوك جديد للتقسيم هو "الاستعمار الناعم" باحتلال العقول من خلال حروب الجيل الرابع ، رأس الحربة فيه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فهو سلاح أشد فتكا من الأسلحة الخشنة عبر حروب الشائعات ورفع يافطة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب عنوانها "مفيش فايدة " بهدف تيئيس الناس من الأحوال والتشكيك فى المؤسسات الوطنية للدول، واستغلال حالة الوهن أو ظرف اقتصادي أو سخط اجتماعي، لتبدأ رقصات الشيطان وتسخين العباد للكفر بالأنظمة والمؤسسات والأوضاع، عبر حملات ممنهجة ومنصات ممولة، نهايتها الخروج إلى الشوارع تحت راية إسقاط أنظمة ، لكن الحقيقة المؤلمة هى إسقاط دول، خبرت التجارب السابقة أن من يسقط لن يعود بسهولة .
وجهة نظرى أن بيت القصيد فى مخططات التفكيك هو تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، والتى أعلن عنها جهرا بوقاحة رئيس وزراء الكيان المحتل ومن قبله ترامب بأن جغرافيا الكيان ضئيل ويستلزم التمدد والتوسع ولعل حرب غزة نموذجا ، فالهدف ليس القضاء على حماس بل ابتلاع ما تبقى من أرض وتكفين القضية الفلسطينية وتشيعيها إلى مثواها الأخير تمهيدا إلى الحلم التوراتى المزعوم .
الحقيقة أن إعادة تشكيل المشهد الإقليمي يهدف إلى وطن عربى مفكك أكثر اضطرابا وأقل امانا ،ترتفع أعبائه الاقتصادية ويكثر لاجئيه ، فمخططات حدود الدم التى أعلنها الجنرال الأمريكى المتقاعد رالف بيترز ، هى نيولوك جديد لأفكار برنارد لويس بهدف خلق كيانات متناحرة ودويلات صغيرة والقضاء على القوى الإقليمية الكبرى بإثارة النزاعات العرقية والطائفية.
ولعل السؤال السمج الذى كان فيه غرض : لماذا تتسلح مصر ؟ تصبح إجابته ساطعة وسط جغرافيا مشتعلة وإقليم يتهاوى وأوطان ممزقة وأطماع مخيفة أصبح فيه البقاء للأقوى ، فالمحروسة هدف ثمين وسط خرائط الدم،فما بين شرق ملتهب بنيران "النازيين الجدد" ،وغرب منقسم بفعل ميليشيات مصنوعة ،وجنوب ممزق بحرب أهلية "وتهديد الشريان المائى، تصبح نظرية الردع هى معادل مهم للحفاظ على حدود الوطن من حزام النار فى عالم لا يحترم سوى الأقوياء .
بدون شك قرار التسليح له كلفة اقتصادية باهظة، لكنه أرخص من ثمن ضياع وطن، فالضرورات الأمنية تبيح فرض العضلات بحثا عن البقاء وكبح جماح الطامعين.