تشهد الحرب الدائرة في غزة منذ أسابيع تصاعداً لافتاً في التكتيكات العسكرية الإسرائيلية، ضمن ما يمكن وصفه باستراتيجية كبرى تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية لم تتحقق عبر المواجهات السابقة. ومع ذلك، يتضح أن الجيش الإسرائيلي يواجه أزمة مركبة، إذ لم يستطع حتى الآن القضاء على المقاومة أو تفكيك قدرات حركة حماس، ما أفرز واقعاً ميدانياً وسياسياً ضاغطاً على القيادة الإسرائيلية.
وهو ما يفسر الوضع الراهن ، الردع العقابي مقابل الردع التراكمي
ومن هنا لجأ الجيش الإسرائيلي إلى إستراتيجية باتت سمة مميزة لعملياته الأخيرة: الردع العقابي (Punitive Deterrence). يقوم هذا النهج على تحميل السكان المدنيين الثمن الأكبر من خلال التدمير الممنهج للبنية التحتية وتجويع السكان وتهجيرهم قسراً، في محاولة للضغط على المقاومة عبر محيطها الاجتماعي. بيد أن هذه الإستراتيجية لم تثبت فعاليتها، بل أسهمت في تعميق العداء الشعبي وتغذية خطاب المقاومة، كما منحت حماس مزيداً من الشرعية الداخلية والإقليمية باعتبارها صامدة أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
في المقابل، تعتمد حماس على ما يمكن وصفه بـ الردع التراكمي (Cumulative Deterrence)، أي مراكمة الخسائر داخل إسرائيل مع مرور الوقت عبر ضربات متقطعة ومتدرجة ولكن مؤثرة، تستنزف الجيش وتخلق ضغطاً متزايداً داخل المجتمع الإسرائيلي. ومع استمرار هذه الخسائر وتراكمها، يزداد الانقسام الداخلي حول جدوى الحرب، وهو ما بدا واضحاً في استطلاعات الرأي التي أظهرت تراجع التأييد الشعبي للعملية العسكرية وارتفاع الأصوات المطالبة بوقف إطلاق النار أو التوصل إلى تسوية جزئية ينحو يقارب 47%.
ومع مرور الوقت، يراكم هذا النهج ضغوطاً نفسية واقتصادية على المجتمع الإسرائيلي، ويخلق مناخاً من الشكوك حول قدرة الجيش على الحسم.
بعيداً عن الشعار المعلن المتمثل في “القضاء على حماس”، تتضح أهداف استراتيجية أوسع. فالجيش الإسرائيلي يواصل سياسة تهجير السكان في غزة جنوباً، في وقت يتصاعد فيه الحراك السياسي والإعلامي حول مشروع ضم الضفة الغربية. التصريحات حول بناء 100 ألف خيمة في مناطق جنوب القطاع مثل المواصي تشير إلى مخطط طويل الأمد لإعادة تشكيل الجغرافيا السكانية الفلسطينية.
وبالنظر إلي واقع ميداني متغير، فالمؤشرات الميدانية خلال الأيام الأخيرة توضح طبيعة المأزق. فقد أعلن الجيش الإسرائيلي أن الفرقة 99 مع لواء المدرعات 7 ولواء ناحال تنفذ عمليات في حي الزيتون، بينما تعمل الفرقة 162 ومعها لواء المدرعات 401 ولواء جفعاتي شمالاً في منطقة الشيخ رضوان. ورغم هذه التحركات، لم ينجح الجيش سوى في السيطرة على نحو 40% من مدينة غزة، ما يعكس صعوبة المعركة البرية وتعقيدها.
إلا انه قد أعادت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة حول معبر رفح والتهجير القسري لسكان غزة، وما تبعها من رد مصري حاسم عبر بيان وزارة الخارجية وتصريحات عدد من المسؤولين المصريين، رسم ملامح المشهد السياسي والعسكري في المنطقة. وبالنظر إلى المعطيات الحالية، يمكن القول إن إسرائيل تواجه مأزقًا استراتيجيًا لا تملك حياله سوى سيناريوهين لا ثالث لهما، وكلاهما محفوف بكلفة باهظة.
السيناريو الأول: وقف الحرب والتصعيد
قد يبدو هذا الخيار نظريًا بديهيًا بعد عامين من حرب استنزاف مُكلفة، لكنه في الواقع يحمل مخاطر مدمّرة على نتنياهو شخصيًا وعلى إسرائيل كدولة.
داخليًا، وقف الحرب يعني محاكمته أمام الرأي العام الإسرائيلي، الذي سيحمله مسؤولية الفشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، وعلى رأسها سياسة التهجير و“القضاء على حماس”. كما أن المعارضة السياسية ستجد في هذا التوقف فرصة لتصعيد الضغوط والمطالبة بإسقاط حكومته.
خارجياً، فإن التوقف يفتح الباب لمساءلة إسرائيل أمام المجتمع الدولي بشأن جرائم الحرب والتهجير، في ظل مناخ عالمي متحوّل شهد خلال الأشهر الماضية اعتراف عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية.
أمريكيًا، سيؤدي أي تراجع إلى خسارة الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الذي حصلت عليه إسرائيل خلال الحرب، إذ ستظهر الولايات المتحدة وكأنها دعمت حربًا عبثية انتهت بلا نتائج.
إقليميًا، فإن التوقف سيعني خسارة الهيمنة الإسرائيلية على الإقليم، خصوصًا بعد أن أعادت الحرب إلى الواجهة صورة إسرائيل الضعيفة أمام مقاومة غير نظامية.
من هنا يتضح أن هذا السيناريو مستبعد، لأنه يساوي انتحارًا سياسيًا لنتنياهو وانكسارًا استراتيجيًا لإسرائيل.
عنصر الوقت: التهديد الأكبر
بعكس المراحل السابقة، لم يعد عامل الوقت في صالح إسرائيل. ففي السابق، كان بإمكان نتنياهو المناورة وكسب الوقت لتسويق “صفقات جزئية” أو الضغط عبر تصعيد ميداني محدود. أما الآن، فالوقت أصبح عامل ضغط استراتيجي، خصوصًا مع اقتراب انعقاد الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وهو ما ينزع الشرعية عن استمرار الحرب.
بعبارة أخرى، كل يوم يمرّ لم يعد يوفر مساحة للمناورة، بل يضيف إلى كلفة إسرائيل السياسية والعسكرية والاقتصادية.
أما السيناريو الثاني: الاستمرار في الحرب بلا عودة
الخيار المتبقي أمام نتنياهو هو الاستمرار في الحرب إلى أقصى مدى، بما يعني المضي في خطوات لا رجعة فيها. أي تراجع أو انسحاب من الأراضي المحتلة في غزة أو الضفة سيُقرأ كهزيمة مؤكدة.
هذا السيناريو يرتبط بما عبّر عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال الاحتفال بالمولد النبوي، حين أكد إدراك مصر الكامل لما يُحاك ضدها، في إشارة إلى محاولات تهجير الفلسطينيين نحو سيناء أو فرض وقائع جديدة على الأرض.
كما أنه يضع إسرائيل في مواجهة مباشرة مع الموقف المصري، الذي عبّر عنه بيان الخارجية بشكل واضح، ومعه تصريحات الأستاذ ضياء رشوان حول المسافة بين تل أبيب والعريش (100 كيلومتر فقط)، كإشارة إلى أن أي تهديد للأمن المصري ستكون له عواقب وخيمة.
ناهيك عن أن أزمة إسرائيل البنيوية والمعضلة الكبرى تكمن في كونها لم تعد تواجه جيوشًا نظامية مؤخرا، بل حركات مقاومة تمتلك تكتيكات حرب المدن والأنفاق. وهذا ما كشفه طول أمد الحرب، إذ لم تنجح القوات الإسرائيلية في حسم المعركة رغم استخدام ألوية كاملة مثل الفرقة 162 والفرقة 99 وكتائب مدرعة ونخبوية. النتيجة أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام حرب استنزاف مفتوحة، تستهلك احتياطياتها العسكرية (حتى 130 ألف جندي احتياط) وتستنزف اقتصادها في الوقت ذاته.
ومع استقراء الكلفة والتداعيات الإقليمية والدولية، فالاستمرار في الحرب سيؤدي إلى فقدان إسرائيل ما تبقى لها من أوراق قوة إقليمية. فالدول الخليجية والعربية المحيطة لن تتحمل تداعيات التهجير أو التصعيد غير المحدود. كما أن المراهنة على استمرار الغطاء الأمريكي تبدو أكثر هشاشة في ظل التغيرات الدولية وتسارع الاعتراف بفلسطين.
ختاما، نحن أمام معادلة شديدة التعقيد: وقف الحرب يعني انهيار نتنياهو وإسرائيل داخليًا وخارجيًا، والاستمرار فيها يعني الانزلاق إلى مستنقع استنزاف لا نهاية له. في كلتا الحالتين، يبدو أن إسرائيل فقدت زمام المبادرة الاستراتيجية، فيما عززت مصر موقعها كضامن أساسي للاستقرار الإقليمي، قادرة على مواجهة أي محاولة للمساس بأمنها أو فرض تهجير على حدودها.