قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عبد السلام فاروق يكتب: كلية الإعلام ومستقبل صناعة الوعي في مصر

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

تمر خمسون عاماً على تأسيس كلية الإعلام بجامعة القاهرة.. خمسون ربيعاً من العطاء والريادة، خمسون حصاداً من العقول والكفاءات التي شكلت وجدان الأمة وصنعت وعيها. إنها مناسبة تحمل في طياتها ذكريات لا تنسى، ومسيرة حافلة بالإنجازات، وقصة كفاح تستحق أن تروى.

أتذكر تلك الأيام.. أيام الثمانينيات البعيدة، عندما دخلت لأول مرة بوابة الكلية عام 1986 . كانت رائحة العلم تفوح في الممرات، وصوت الحكمة يتردد في القاعات. كنا شباباً متعطشين للمعرفة، نبحث عن الحقيقة، نبحث عن أنفسنا في عالم الإعلام الواسع.

كانت المحاضرات ليست مجرد دروس نتعلمها، بل كانت رحلات فكرية نعيشها. كنا نغوص في أعماق الفكر، نناقش قضايا الأمة، نحلل مشكلات المجتمع. وكان أساتذتنا الكرام هم قباطنة هذه الرحلات.. قادة الفكر ومنارات العلم. أتذكر الدكتور خليل صابات .. الأستاذ الجليل الذي علمنا أن الإعلام رسالة قبل أن يكون مهنة، وأن الكلمة مسئولية قبل أن تكون خبراً. كان يقول لنا: الإعلامي الناجح هو من يملك رؤية واضحة، ويعرف كيف يوازن بين مهنيته ومسئوليته تجاه وطنه.
أتذكر الدكتور محمد سيد محمد .. الذي كان يجلس بيننا كالأب الحنون، ينقل إلينا حكمة الأجيال، ويعلمنا كيف نبني جسوراً بين تراثنا الأصيل ومعاصرتنا المتجددة. كان يرسم لنا طريقاً نربط فيه بين ماضينا المجيد وحاضرنا الواعد.

أتذكر الدكتور مختار التهامي.. العالم الجليل الذي كان يرى في الرأي العام صوت الشعب الحقيقي، ويعلمنا أن الإعلام هو الأمانة التي نحملها تجاه هذا الصوت.

كان يؤمن بأن الإعلامي يجب أن يكون صديقاً للشعب، لا ناقلاً للأخبار فحسب. ولا أنسى الدكتور فاروق أبو زيد.. الذي علمنا كيف نغوص في أعماق المضامين الإعلامية، كيف نحلل بمنهجية علمية صارمة، كيف نقرأ ما بين السطور. كان يردد دائماً: الحقيقة لا توجد على السطح، بل في الأعماق.

وكانت الدكتورة عواطف عبد الرحمن.. نموذجاً للمرأة العربية المثقفة، تجمع بين عمق الأكاديمي وبراعة الممارس. علمتنا كيف تكون المرأة الإعلامية قوية بفكرها، رقيقة بأسلوبها، مؤثرة بكلمتها. ولا يمكن أن يغيب عن الذكر الدكتور محمود خليل، الذي علمنا كيف نقرأ وسائل الإعلام بوعي نقدي. كما كان الدكتور محمد علي العويني يغوص بنا في أعماق الإعلام السياسي. أما الدكتور محمد منصور هيبه، فكان صاحب بصمة واضحة في دراسة الإعلام الجديد.

أتذكر زملائي الأعزاء.. محمد عبد المتعال بعقليته التحليلية الاستثنائية، وأحمد الحديدي بثقافته الواسعة وموهبته الإذاعية الفذة، وياسر خطاب بأسئلته المحرجة التي كانت تثري النقاش، والدكتورة سلافة جويلي بروحها القيادية وعمقها الفكري.

وكان حسام العاوي مثالًا للإعلامي الملتزم الذي يجمع بين الحس المهني والمسئولية الاجتماعية، بينما مثل محمد مسعد نموذجًا للباحث الجاد الذي لا يهادن في بحثه عن الحقيقة. وهناك آخرون كثر، صنعوا معًا نسيجًا فريدًا من التنوع الفكري والثقافي الذي أثرى تجربتنا الأكاديمية.

كانت أياماً لا تنسى.. كنا نعيش في عالم آخر، عالم الأفكار والآراء، عالم الحوار والجدل، عالم البناء والتأسيس. كنا نخرج من المحاضرات ونحن نحمل أسئلة أكثر من الإجابات، شغفاً أكثر من اليقين، حباً للمعرفة أكثر من الرغبة في الشهادة.
اليوم.. بعد خمسين عاماً، أجد نفسي أسأل: أين نحن الآن من تلك الأيام؟ في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي منصات للضجيج، وغدت المعلومات سلعة رخيصة، وصار الإعلامي مطالباً بأن يكون كل شيء: محللاً، ناقداً، صانع قرار، ومقاتلاً في معركة الوعي.

إن التحديات التي تواجهنا اليوم أكبر من أي وقت مضى.. حروب الشائعات، معارك الوعي، محاولات زعزعة الاستقرار. لكني أؤمن بأن كلية الإعلام ما زالت قادرة على قيادة هذه المعركة، ما دامت تحمل في داخلها روح الأساتذة الكبار، وتقاليد العلم الأصيل، وإرث المسئولية الوطنية.

إننا نحتاج اليوم إلى إعلام يبني ولا يهدم، يوحد ولا يفرق، يرفع ولا يحط. إعلام يكون الإنسان فيه هو الغاية، والحقيقة هي الهدف، والكلمة هي الرسالة. إعلام يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجرأة والحكمة، بين الانتماء والانفتاح.
في هذه الذكرى الغالية، أدعو كل من مر من هنا.. أساتذةً وطلاباً.. إلى أن يحملوا هذه الروح، وأن ينقلوها للأجيال الجديدة. أدعوهم إلى أن يكونوا سفراء للقيم التي تعلموها هنا.. قيم الصدق، المهنية، المسئولية، والانتماء. فالكلية ليست جدراناً وشهادات.. الكلية هي روح.. روح تسكننا ونتسامى بها.. روح نحملهــا في قلوبنــا.. حيثما حللنا وارتحلنــا.

والآن.. نحن على أعتاب مرحلة جديدة.. مرحلة التحديات الكبرى والتحولات الجذرية. فبعد خمسين عاماً من العطاء، تجد كلية الإعلام نفسها أمام واقع جديد مختلف كلياً عن الماضي. لقد انقلبت الموازين.. وتغيرت المعادلات.. فما عاد الإعلام ذلك العالم الهادئ الذي عشناه في تسعينيات القرن الماضي. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة معركة حقيقية.. معركة للوعي.. للعقول.. للقلوب.

أتساءل في لحظات التأمل: كيف نواجه هذا الطوفان الرقمي؟ كيف نتعامل مع هذه الثورة التقنية التي غيرت كل شيء؟ كيف نحافظ على القيم والأخلاقيات الإعلامية في زمن أصبحت فيه الكلمة سلعة والأخبار بضاعة؟
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الكلية اليوم هو كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة.. كيف نحافظ على تراثنا الإعلامي العريق مع انفتاحنا على التقنيات الحديثة. كيف نخرج إعلاميين يجمعون بين حكمة الماضي وروح المستقبل. لقد كنت مؤمناً دوماً بأن الإعلام رسالة سامية.. رسالة بناء لا هدم.. توحيد لا تفرقة.. رفع لا تحطيم. ولكنني أرى اليوم أن المعركة أصبحت أكثر تعقيداً.. أكثر شراسة.
فقد أصبح الإعلامي مطالباً بأن يكون في الوقت نفسه: محللاً استراتيجياً، خبيراً تقنياً، نفسانياً اجتماعياً، ومقاتلاً في معركة الوعي. أصبح عليه أن يواجه حروب الشائعات، معارك التضليل، ومحاولات زعزعة الاستقرار.

وفي خضم هذه العاصفة، تبرز أهمية الدور الذي يجب أن تلعبه كلية الإعلام. فليست المهمة مجرد تخريج إعلاميين تقليديين، بل إعداد قادة للرأي العام، صناع للوعي، حراس للحقيقة.

إنني أرى أن مستقبل الكلية يتطلب إعادة نظر جذرية في المناهج، ليس فقط بإضافة مقررات تقنية جديدة، بل بإعادة صياغة الرؤية ككل. نحتاج إلى مناهج تعلم الطلاب كيف يفكرون، لا ما يفكرون.. كيف يحللون، لا كيف ينقلون.
نحتاج إلى تعزيز الجانب العملي، من خلال شراكات حقيقية مع مؤسسات إعلامية رائدة. نحتاج إلى ورش عمل يقودها خبراء ميدانيون، برامج تدريبية في قلب الأحداث، زيارات ميدانية لمعامل التحرير واستوديوهات البث.

ولكن الأهم من كل هذا.. نحتاج إلى الحفاظ على الروح الإنسانية للإعلام. ففي زمن الذكاء الاصطناعي والروبوتات، يبقى الإنسان هو الأساس.. تبقى المشاعر هي الجوهر.. تبقى الأخلاق هي الضمان.

أتذكر كيف كان أساتذتنا الكبار يهتمون بنا كأشخاص قبل أن يكونوا طلاباً. كانوا يسألون عن أحوالنا، يشاركوننا همومنا، يوجهوننا في حياتنا الشخصية قبل المهنية. هذا هو النموذج الذي نحتاجه اليوم. فالإعلامي الحقيقي ليس مجرد ناقل أخبار، بل هو إنسان يحمل قلباً ينبض بالعاطفة، وعقلاً متفتحاً، وروحاً متعطشة للمعرفة. إنسان يعرف معنى الألم فيعبر عنه، يفهم طعم الفرح فيشارك فيه، يدرك معنى المعاناة فيتضامن معها. إن تحديث المناهج مهم، ولكن الأهم هو الحفاظ على القيم. تطوير الوسائل ضروري، ولكن الضروري هو تعزيز الرسالة. مواكبة التقنيات حتمية، ولكن الحتمية هي الحفاظ على الهوية.

إنني أرى مستقبلاً مشرقاً لكلية الإعلام، ولكن هذا المستقبل يتطلب جرأة في التغيير، شجاعة في التجديد، وإيماناً بالرسالة. مستقبل تكون فيه الكلية منارة للفكر، حصناً للهوية، وسنداً للدولة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. فالكلية التي علمتنا كيف نقرأ العالم بين السطور، كيف نميز الجوهر من المظهر، كيف نرى الحقيقة خلف الضجيج.. هي الكلية التي ستعلم الأجيال القادمة كيف يواجهون تحديات العصر، كيف يبنون المستقبل، كيف يصنعون التاريخ.

وهكذا.. تبقى كلية الإعلام.. روحاً تسكننا.. وذكرى نحملهــا.. ومستقبلــاً نبنيــه معــاً..