مثّل الهجوم الإسرائيلي الأخير الذي استهدف قادة حركة “حماس” في العاصمة القطرية الدوحة تطوراً نوعياً في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ليس فقط لأنه وقع خارج ساحات المواجهة التقليدية كغزة أو جنوب لبنان، بل لأنه استهدف دولة تُعد أحد أبرز الوسطاء في جهود التهدئة، وتستضيف في الوقت ذاته القيادة المركزية الأميركية وقاعدة العديد الجوية، ما يضفي على العملية أبعاداً جيوسياسية تتجاوز الحسابات العسكرية المباشرة.
وعليه يفرض هذا التطور قراءة معمقة ترتكز إلى تحليل الفاعلين: تحديد مصالح كل طرف، أدواته، قيوده، وسيناريوهات تحرّكه لاحقاً وتأخذ في الاعتبار تداخل المسارات الميدانية والدبلوماسية
لذا سيعتمد هذا المقال نموذج تحليل الفاعلين (Actors Analysis): لكل فاعل نعرّف الأهداف المعلنة والضمنية، الموارد والقدرات، القيود والمحدّدات، ثم التفاعلات المتوقعة وذلك بالنظر إلي أنه علي صعيد التطور الميداني للعملية الإسرائيلية، فقد جاءت بعد أسابيع من تصعيد عسكري متبادل في غزة واستمرار المراوغة في المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، في حين انه استخباراتياً أراد جيش الاحتلال إيصال رسالة مزدوجة: الأولى إلى الحركة بأن أي ملاذ آمن خارج غزة لم يعد مضموناً، والثانية بأن إسرائيل قادرة على توسيع دائرة المواجهة إذا رأت أن العملية السياسية لا تخدم مصالحها.
هذا التطور ينقل المواجهة من “الميدان المغلق” في غزة إلى فضاء أوسع، ويؤسس لمرحلة جديدة من الضغط النفسي والسياسي على الحركة وبيئتها الداعمة، لكنه في الوقت ذاته يرفع منسوب المخاطر، إذ يهدد بإغلاق قنوات التفاوض التي تمثل الدوحة أحد ركائزها.
وفي الحقيقة مع تتبع للملابسات التاريخية، لإسرائيل تاريخ في مهاجمة القادة السياسيين لحماس، كما حدث مع اغتيال زعيم الحركة إسماعيل هنية في يوليو 2024 أثناء وجوده في إيران. ولذلك بررت إسرائيل العملية بأنها جزء من حربها الشاملة على “حماس”، لكن القراءة الأعمق تشير إلى أبعاد سياسية داخلية لا يمكن تجاهلها حكومة بنيامين نتنياهو تعاني من تآكل شعبيتها ومن ضغوط حلفائها الغربيين، والضربة في الدوحة توفر لها “إنجازاً رمزياً” يمكن تسويقه داخلياً على أنه دليل قوة وحزم وذلك كما أوضح نتنياهو في كلمته يوم 9 سبتمبر 2025.
غير أن هذا المكسب التكتيكي قد يتحول إلى عبء استراتيجي إذا ما أدى إلى تعطيل قنوات التفاوض، أو إلى توتير علاقات إسرائيل مع العواصم الخليجية.
وعند تفنيد الأهداف المعلنة والضمنية، تقويض قدرة «حماس» القيادية، إرسال رسالة ردع استراتيجية، وخلق «مكسب رمزي» داخلي يمكن تسويقه في سوق السياسات الداخلية، أما الموارد والقدرات: تفوق استخباراتي وجوي وقدرات تنفيذية دقيقة مع وجود القيود المتعلقة بتكلفة دبلوماسية مباشرة (انتهاك سيادة دولة وسيطة)، احتمال إغلاق قنوات التفاوض التي تُخدم مصالح الأمن القومي الإسرائيلي طويلة الأمد، وتعريض التحالفات الإقليمية للخطر.
الاستنتاج: قرار التصعيد يقرأ كحساب تكتيكي قصير الأمد مقابل كلفة استراتيجية محتملة، وقد يرتبط أيضاً بحسابات داخلية لحكومة نتنياهو تسعى لتخطي أزمات سياسية عبر «إنجازات أمنية» محسوسة.
وعلي صعيد الموقف الأميركي والذي يتراوح بين صمت محسوب ورسائل متناقضة، وهو احد أبرز ما أثار الانتباه، فالدوحة تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وأي عملية عسكرية على أرضها تمثل تحدياً مباشراً لواشنطن، ومع ذلك اكتفت الإدارة الأميركية بتصريحات مقتضبة شددت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع التعهد بعدم تكرار هذا الأمر مرة آخري؟
هذا الموقف يعكس معضلة أمريكية مزدوجة: فمن جهة، لا تستطيع واشنطن التخلي عن التزاماتها تجاه إسرائيل، ومن جهة أخرى تدرك أن صمتها قد يُفسَّر خليجياً على أنه تواطؤ، ما يضعف صدقيتها كضامن للأمن الإقليمي. ويبدو أن واشنطن تراهن على احتواء الأزمة دبلوماسياً من خلال اتصالات مكثفة مع الدوحة وهو ما برز من خلال حرص رئيس الأمريكي لقاء رئيس الوزراء القطري، وذلك لضمان استمرار دور قطر كوسيط ضروري في ملفات التهدئة وإعادة الإعمار.
لذلك تكمن أهمية المرحلة المقبلة في قدرة الأطراف العربية والإسلامية على تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإعادة صياغة موقف إقليمي موحد يدعم جهود الوساطة ويحميها، ويضغط من أجل استئناف مسار سياسي يضع حداً لدائرة العنف المستمرة ، ويبني أساساً جديداً لمعادلة توازن أكثر استقراراً تعيد الاعتبار لدور الوساطة وتفتح الباب أمام مفاوضات جدية تؤدي إلى تسوية عادلة ودائمة. وبالتالي تمثل القمة العربية-الإسلامية المنتظرة وإعلان نيويورك نافذتين دبلوماسيتين نادرتين لإعادة توجيه دفة الصراع نحو حل سياسي شامل.وفي المقابل إن الفشل في استثمار هذه اللحظة قد يعني انزلاق المنطقة إلى مزيد من التصعيد وتوسيع جغرافيا الصراع.
ختاماً، ان الضربة في الدوحة أعادت تسليط الضوء على تناقضات منطق العمل العسكري في مقابل منطق الوساطة. إذا كانت إسرائيل تسعى لردع فوري ومكاسب تكتيكية، فإن ثمن ذلك قد يكون فقدان أدوات التفاوض التي تظلّ، رغم كل العيوب، الوسيلة الأقرب لخفض تكلفة الصراع على المدنيين والمنطقة. من هنا، تبدو نقطة التحوّل ليست في وقع الضربة بحد ذاتها، بل في كيفية استجابة الوسطاء والدول الكبرى وما إذا كانوا سيعيدون تأسيس قواعد حماية الوساطة أم سيشهد الإقليم مزيداً من توسيع ساحات الصراع خارج حدود غزة.