قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. منال إمام تكتب: الدبلوماسية المصرية .. حين تُدار المعركة بالكلمة قبل السلاح

د. منال إمام
د. منال إمام

ونحن على أعتاب أكتوبر نتذكر وما أشبه اليوم بالبارحة لكن تتغير المشاهد ولا يتغير العدو إلا أن عداءه ليس لمصر بل للجميع ويده ملطخة بالماء العربي في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن ومؤخراً في قطر ولا زال الموقف المصري كما هو عبر العصور قوة ومواقف واضحة ومحددة.

ففي زمنٍ كان فيه الصمت العربي يُترجم في المحافل الدولية على أنه استسلام، وفي لحظةٍ تاه فيها الحق تحت ركام المصالح الكبرى، وقفت مصر، لا بالسلاح وحده، بل بحنكة دبلوماسية نادرة، لتعيد إلى القضية العربية وجهها المشرق، ولتثبت أن المعارك الكبرى تُدار أولًا في كواليس السياسة، قبل أن تشتعل في ميادين القتال.

لقد كشفت مذكرات وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر، أن واشنطن عشية حرب أكتوبر 1973 كانت تتحرك في منطقة رمادية، انحيازٌ لإسرائيل، وادعاءٌ بالحذر، ومراوغة في تقديم أي التزام حقيقي يعيد الأرض لأصحابها.
في هذا المشهد الغائم، سطع نجم الدبلوماسية المصرية كقوة فاعلة، قادرة على إدارة التناقضات الدولية وتوجيه البوصلة نحو استحقاق تاريخي، لم يكن لمصر أن تقبله إلا مشرفًا.
حافظ إسماعيل... رسول مصر الصامد خلف الأبواب المغلقة، كان حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي للرئيس أنور السادات، يخوض واحدة من أعقد المهام الدبلوماسية في القرن العشرين.
لم يكن دوره مجرد نقل رسائل، بل بناء موقف، وصياغة رؤية، وفرض شروط احترام متبادل في حوار بدا في ظاهره غير متكافئ.
أمام كيسنجر، لم يكن حافظ إسماعيل مترددًا ولا منساقًا خلف الطروحات الأمريكية "المرنة"، التي كانت في حقيقتها، محاولات ناعمة لتمرير الواقع المفروض بالقوة. لقد وضع الرجل النقاط فوق الحروف، لا سلام دون انسحاب كامل من الأراضي المحتلة... لا تفاوض من موقع ضعف... ولا مستقبل لأي حل لا يعترف بالسيادة المصرية الكاملة.
رفض المرونة... حين يكون المبدأ أوضح من المجاملة
قد يُخطئ البعض في فهم الرفض المصري لما عُرف وقتها بـ"الحلول المرحلية" أو "الخيارات المرنة"، لكنه لم يكن عنادًا سياسياً، بل فهمًا عميقًا لطبيعة اللعبة الدولية، وإدراكًا بأن التنازلات تبدأ صغيرة، وتنتهي بانهيار الحقوق.
كانت مصر قد تعلّمت من تجاربها، وراكمت وعيًا جعلها تدرك أن الثقة في الوعود الأمريكية وحدها لا تكفي، وأن على العرب أن يفرضوا شروط الندية، لا أن ينتظروها من الآخرين.
الأرضية الدولية... بناء تحالفات بلا ضجيج
لم تكتفِ الدبلوماسية المصرية بالرهان على واشنطن وحدها. بل تحركت بحنكة فائقة في كل الاتجاهات:
•    في الأمم المتحدة،
•    وداخل حركة عدم الانحياز،
•    ومن خلال شراكات استراتيجية مع دول إفريقيا وآسيا،
•    ومع الدول العربية الحليفة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
لقد كان الهدف واضحًا: صناعة رأي عام دولي ضاغط، يُعيد للقضية المصرية والعربية حضورها الأخلاقي والقانوني، ويجعل من أي دعم غربي لإسرائيل موقفًا مكشوفًا في عيون الشعوب.
السادات... قائد المعركة السياسية والعسكرية
ولأن مصر لا تُراهن على الحرب كخيار عبثي، كان الرئيس أنور السادات يدير المشهد برؤية رجل الدولة الذي يُدرك أن الدبلوماسية ليست نقيضًا للسلاح، بل مكمله.
لقد جاءت حرب أكتوبر، لا كقرار منفصل عن السياسة، بل كنتيجة حتمية لاستنفاد كل المسارات السلمية.
وهنا تجلّت عبقرية الأداء المصري:
فقد استُخدمت الدبلوماسية لتهيئة المناخ السياسي للحرب، وأُبقيت قنوات التفاوض مفتوحة، دون تنازل، ووُضعت الخطوط الحمراء للحقوق السيادية بوضوح تام، حتى قبل أن تعبر القوات المسلحة المصرية قناة السويس.
واشنطن في مأزق... والموقف المصري في تصاعد
تُظهر الوثائق الأمريكية أن الإدارة الأمريكية كانت تتوجس من انفجار الوضع في الشرق الأوسط. لقد خافت من الغضب العربي، ومن تأثيرات الحرب على سوق النفط العالمي، ومن تداعي علاقاتها بحلفاء كالسعودية ومصر والمغرب.
ورغم تلك المخاوف، استمرت في رفض العودة لحدود 1967، ورفضت كل المبادرات العربية والسوفيتية.
لكنها في الوقت ذاته، لم تستطع أن تتجاهل الدبلوماسية المصرية، التي فرضت حضورها، وأعادت تعريف موازين القوى ليس فقط بالعتاد، بل بالعقل السياسي.
والنصر لم يكن عسكريًا فقط... بل سياسيًا أولًا
لقد شكّلت المرحلة التي سبقت حرب أكتوبر ذروة في النضج الدبلوماسي المصري.
كانت مصر تعرف أنها لن تستعيد الأرض بالدم وحده، بل بالحكمة، وبالتخطيط، وبإجبار العالم على الإنصات.
وحين جاءت ساعة الصفر، لم تكن مصر تتحرك من فراغ، بل من أرضية سياسية راسخة، ومن قضية عادلة حاصلة على اعتراف دولي متصاعد، ومن تحالفات نُسجت بصمت في غرف الدبلوماسية.
إن انتصار أكتوبر لم يُكتب فقط بأحرف من دم، بل أيضًا بمدادٍ من دبلوماسية واعية، آمنت بأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الوطن لا يُدافع عنه فقط بالبندقية، بل بالكلمة التي لا تنكسر.