قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عبد السلام فاروق يكتب: الشرق الأوسط .. مقبرة الإمبراطوريات

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

لو تأملنا حال عالمنا اليوم، لرأينا العجب العجاب. ها هو "النظام العالمي الجديد" الذي رفع راية التحديث والهيمنة منذ قرن، يحاول أن يطمس معالم عالمنا القديم، كمن يحاول دفن النيل تحت الرمال.

لكن الرمال تزول، والنهر يبقى. ها هي بابل تشهد، والفراعنة يسخرون من فوق أعراقهم، والآشوريون يهمسون من تحت الأنقاض: “لا شيء سيأتي ليحل محلنا، فنحن الأصول والأساس!”.

في هذا الزمن المتأرجح بين قوى عظمى صاعدة وأخرى آفلة، تبرز حضارتنا كمناعة تاريخية ضد زيف النسيان. فما حددته معركة "كركميش" منذ أكثر من 2600 عام، لا يزال يرسم مصير المنطقة بأيدينا اليوم. وكأن الزمن يدور في حلقة مفرغة، لكنها حلقة فيها عبر لمن يعتبر.

من "كركميش" إلى القرن الحادي والعشرين: الدروس التي لم نتعلمها، أول هذه الدروس أن المعارك القديمة تعيد نفسها في ثوب جديد. فكما تحالفت بابل مع الميديين لهزيمة مصر والآشوريين، نرى اليوم تحالفات جديدة تنسج لموازنة القوى. لكن الفارق الجوهري أن دماءنا واحدة، وأرضنا واحدة، والغريب لا يبقى بيننا إلا حين نسمح له بالبقاء.

والدرس الثاني أن محاولات المحو لم تتوقف. لقد كان القرن العشرين محاولة ممنهجة لطمس هويتنا، لكن الحضارة المصرية التي عمرها خمسون قرناً لم تسقط، وبابل لم تُنسَ، وآشور لا تزال تروي قصصها. فهل يعقل أن يُمحى كل هذا بحدود سياسية رسمها مستعمر على وتر مصالحه؟.

أما الدرس الثالث فيتعلق بطبيعة القوى العظمى. فاليوم، تعرف القوة العظمى بأنها الدولة القادرة على فرض إرادتها. لكن من يملك شرعية التاريخ؟ أمريكا التي تأسست قبل مائتين وخمسين عاماً؟ أم الصين التي تمتد جذورها إلى آلاف السنين؟ أم نحن الذين علمنا العالم الكتابة والقانون؟ 
لماذا لا تموت حضارتنا؟
السبب يكمن في عمقنا الحضاري. فبينما تعتمد القوى العظمى الحديثة على الاقتصاد والتكنولوجيا، نحن نملك رواية التاريخ التي لا تنكسر. فمصر وبابل والفرس لم تكن مجرد إمبراطوريات، بل كانت مشاريع حضارية أعطت العالم الرياضيات والقانون والفن.

يضاف إلى هذا العمق، الجغرافيا القدرية. فأرض الشرق الأوسط هي قلب العالم، ومن يسيطر عليها يسيطر على العالم. هذا ما فهمه الفراعنة والبابليون، وهذا ما تفهمه إسرائيل وأمريكا اليوم.

ولعل أهم عناصر بقائنا هو المقاومة بالذاكرة. فالشعب الذي يحفظ تاريخه لا يهزم. عندما وقف يوشيا ضد نخو الثاني في مجدو، كان يدافع عن مصير أمته. واليوم، نقف ضد محاولات التطبيع والتبعية بنفس الروح .
 

يذكرنا المفكر جرامشي بأن "العالم القديم يموت، والعالم الجديد لم يولد بعد، وفي هذه الفترة تظهر الوحوش". اليوم، وحوشنا هي التطبيع مع المحتل تحت شعار "السلام الاقتصادي"، والانقسامات الطائفية التي تغذيها قوى خارجية، والتبعية للغرب التي تهدد هويتنا.

لكن التاريخ يعلمنا أن هذه الوحوش لا تعيش طويلاً. فالإمبراطوريات الآشورية والسومرية والفرعونية سقطت حين تخلت عن هويتها، وأن النهضة تأتي حين نعود إلى جذورنا .

استراتيجية البقاء: كيف نستخدم تاريخنا سلاحاً؟
أولى خطواتنا يجب أن تكون توحيد السردية الحضارية. يجب أن نروي قصتنا بأننا أمة واحدة متعددة الثقافات، لا دولاً متنافرة. من مصر إلى العراق، من الشام إلى اليمن، نحن حلقات في سلسلة واحدة .
ثم يجب أن نحول عمقنا التاريخي إلى قوة ناعمة. فبينما تنفق أمريكا تريليونات على جيشها، نحن نملك كنوزاً من التراث يمكن أن تجذب العالم إلينا. لماذا لا نكون وجهة ثقافية بدلاً من أن نكون ساحة حرب؟ 
كما يجب أن نبني تحالفات جديدة على أساس قديم. فالتعاون الاستراتيجي ليس جديداً علينا. وكما تحالفت بابل مع الميديين، يمكننا اليوم بناء تحالفات مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، على أساس المصالح المشتركة واحترام التاريخ .
وأخيراً، علينا أن نقاوم بالهوية. أن نرفض أن نكون نسخة من الغرب. أن نتعلم من أخطاء القرن العشرين، حين حاولنا استيراد نموذج الدولة القطرية ففشلنا. النموذج الناجح هو دولة الحضارة، لا دولة الحدود! 
من تحت الأنقاض

لن يمحو العالم الجديد عالمنا القديم، لأن حضارتنا ليست مجرد ذكريات، بل هي طاقة متجددة تنبت كلما حاولوا دفنها. الشرق الأوسط لم يخلق ليكون فناء خلفياً لأمريكا أو أوروبا. هو مهد الحضارة، وسيعود ليكون مركز العالم .

للقوى العظمى أقول: اقرأوا التاريخ جيداً.. كل من حاول السيطرة على هذه الأرض انتهى به الأمر إلى السقوط. آشور سقطت، وروما انهارت، وبريطانيا خرجت من المنطقة، وأمريكا تترنح اليوم. الدور عليكم، لكن البقاء لنا! 
 

مقبرة الإمبراطوريات
الكبار يظنون أنهم يقودون العالم.. لكن التاريخ يقول إننا من نقود مصيرهم! ما إن تظن قوة عظمى أنها سيطرت على هذه الأرض، حتى تكتشف أنها وقعت في متاهة لا مخرج منها. أمريكا دخلت العراق بجيوش جرارة، وخرجت منها مهزومة. روسيا تحاول اليوم العودة إلى البحر المتوسط من بوابة سوريا، لكنها تتيه في رمالنا المتحركة. الصين تبني "طريق الحرير" الجديد، لكنها ستفاجأ أن طرق بابل لا تسيطر بقرار من بكين! 
 

كيف تحارب الأمم بأسلحة التاريخ؟
لم نعد نحتاج إلى دبابات وطائرات لنثبت وجودنا.. لقد اكتشفنا أن الذاكرة التاريخية هي أقوى سلاح! فلسطين تروي قصتها بحجارة ترميها في وجه أقذر جيش عرفه التاريخ. العراق يمزق خريطة سايكس-بيكو بدماء شهدائه. اليمن يذكر العالم أن "العرب أسود" حين تدافع عن كرامتها . فالمقاومة ليست رصاصاً فقط: هي ثقافة تصنع الوعي.. وهي هوية ترفض الاندثار.. وهي إصرار على أن نكون أصحاب قرارنا.
 

اللعبة النووية..
أمريكا وإسرائيل تعتقدان أن التفوق النووي يضمن الهيمنة.. لكن التاريخ يضحك على هذه السذاجة! إيران أصبحت لاعباً رئيسياً لأنها رفضت الخضوع. كوريا الشمالية فرضت نفسها على الطاولة الدولية بسلاح الرفض. السلاح النووي ليس للاستخدام.. بل للتفاوض. ولو اتحد العرب في برنامج نووي مشترك.. لأصبحوا اليوم يملون شروطهم على العالم! 
 

الاقتصاد ثم الاقتصاد..
نحن لسنا فقراء.. نحن ـ غْلِبنا! نملك 60% من نفط العالم، ومواقع استراتيجية على الممرات البحرية، وشبكة شباب هي الأكبر في العالم. الحل في أيدينا: تقليل الاعتماد على الدولار، وإنشاء سوق شرق أوسطية موحدة، واستثمار الأموال في التكنولوجيا لا في القصور واليخوت! 
 

الخريطة الجديدة
أمريكا تترنح.. روسيا تنهض.. والصين تصعد.. والشرق الأوسط يبقى ساحة المعركة على طرق التجارة، وخزان الطاقة للعالم، والعمق الاستراتيجي لكل من يريد أن يكون إمبراطورية. لكننا لسنا ساحة حرب: نحن اللاعب الرئيسي.. ومن لا يفهم هذه الحقيقة سيسقط كما سقط مئات قبله! 

بالتأكيد الحضارات لا تموت.. بل تتغير أدوارها.. مصر التي بنت الأهرامات قادرة على بناء مستقبل جديد. العراق التي اخترعت الكتابة قادرة على كتابة تاريخ جديد. سوريا التي كانت مملكة تدمر قادرة على أن تعود مركزاً للتجارة العالمية .
الغرب يعيش نهايته.. ونحن نعيش بدايتنا الجديدة. لكن النهضة تحتاج إلى شجاعة في رفض التبعية، وذكاء في بناء التحالفات، وإصرار على أن نكون أصحاب قرارنا .

نحن لسنا فقط أصحاب حضارة.. نحن الحضارة نفسها التي تتحدث بلغة الدم والأرض! والقرن القادم سيكون قرننا.. لأن الشمس تشرق من الشرق!